أربعيني، ولكن تحركاته وتصرفاته وأناته ورصانته كأنها تصدر عن حكيم سبعيني أو ثمانيني خبر الحياة بطولها وعرضها. لم يدرس السياسة أكاديميا، ولم يتخرج في أكسفورد أو هارفارد أو السوربون أو غيرها من الجامعات العريقة في العالم، بل كما هو معلوم لا يحمل حتى شهادة جامعية في أي اختصاص. ولكن كما رُوي عن الرّئيس الصّومالي الأسبق محمد زياد بري رحمه الله عندما سئل في أي جامعة تخرج؟ فردّ أنّه تخرج في جامعة “الأيام والأحداث” فالأمر نفسه ينطبق أيضا على أحمد الشرع؛ لأنّه كما يبدو من تحركاته فهو رجل علّمته الأيام، وصقلته التّجارب، واستفاد من الواقع المرير الذي مرّت به سورية وثورتها العظيمة خلال العقد الماضي.
في الشّهور الثّلاثة الأولى التي أصبح الرّجل فيها زعيم سوريا الأول، تصرّف كرجل دولة من الطراز الرّفيع وليس كثوري قدم توا من الجبهة كما هو المعتاد. وخالف في هذا جميع التّوقعات التي راهنت على دخول سوريا في نفق مظلم بعد وصوله والثوار إلى سدة الحكم، إما إشفاقا على البلد، أو تمنيا لذلك السيناريو الذي يمثل فيه الشرع دور الجزّار. ولكن بوادر أفعاله وقراراته تبدو عكس ذلك، وكثير من المحللين وصفوه بالدّاهية.
اختيار التّوقيت المناسب للهجوم الكاسح، والانقضاض على النظام وإسقاطه في زمن قياسي ودون إراقة كثير من الدماء، وضبط الوضع وغياب التّفلت الذي يعقب دائما سقوط الأنظمة، بل طمأنة الجميع -داخليا وخارجيا- وخاصّة الأقليات قولا وفعلا، وعدم استخدام القوة بعد سقوط النّظام إلا للضّرورة القصوى -في حالة السّاحل مثلا-، وتطويق أحداث السّاحل بوقت قياسي وتفويت الفرصة على المتربصين داخليا وخارجيا، واستمالة الأكراد والدّروز إلى البيت السوري الكبير سلميا وبالإقناع، بل وفي توقيتها الفذ الرّائع الذي أعقب أحداث السّاحل المريرة، وعدم الانجرار وراء الاستفزازات الصهيونية وتجنب حرب غير متكافئة وفي غير وقتها، الخطوات السياسية الأخرى التي وضعت الجميع على طريق الأمل، وجمعت السوريين على مائدة مستديرة للحوار وما أعقبها من قرارات؛ كلّها أمور أثبتت حكمة الرّجل، وكعبه العالي في السياسية الواقعية المرنة.
ذكرتني هذه السّياسة المرنة والرّصينة والواقعية للشّرع ورفاقه، الذين يكابدون الخطى في قيادة سورية إلى برّ الأمان بكل التّأني والحذر، ودون معارك وهمية جانبية؛ ذكرتني بالفرص العديدة التي ضيعها أبناء بلدي الصّومال بسياسات خشنة غير حكيمة، ومعارك وهمية عسكرية أو سياسية مستدامة على حساب مستقبل البلاد، ومنها على سبيل المثال هذه الثّلاثة التّالية: الأولى بعد سقوط الحكومة المركزية في البلاد 1991، والثانية عند سيطرة المحاكم الإسلامية على العاصمة بعد دحرهم زعماء الحرب الأهلية عام 2006، والثّالثة بعد طرد الإثيوبيين من البلاد عام 2008 بقيادة حركة الشّباب، ثم في الحالات الثّلاثة أتذكر كيف ضاعت فرصة لملمة جراح الصّومال، وكيف انشغل “المنتصرون” بصراعات صفرية وحروب لا طائل منها، وسياسات غير واقعية وغير مدروسة، ومحاولة إخضاع الجميع بالقوة بدل الحوار والتفاهم. كم الفرق كبير والمسافة شاسعة بين الشعوب والقيادات.