كغير العادة كان صباحا هادئا بكل المقاييس، جميع قاعات الجامعة كانت تحتضن طلابا وطالبات يصارعون مع ورقة الإمتحانات، يقلبون بصرهم على الورقة تارة علهم يجدون الجواب لهذه الأسئلة، وتارة أخرى نحو زاوية المراقب للتأكد إن كان يركز عليهم أم لا؟ هل هو متشدد مع أي التفاتة؟ أم عنده نوعا من اللامبالاة ويغض الطرف عن المحاولين للحصول على الغش من زملاء القاعة؟ فجأة يدخل أستاذ فريد إحدى القاعات ليتفقد كيف تسير الأمور، وخلال تجوالها فيها لاحظ وجود طالبة في مقتبل عمرها جميلة العينين نضرة الوجه، تتوسط في القاعة، لا تكثر الإلتفات كبقية زملائها وزميلاتها في القاعة منهمكة على ورقة الاجابة، لم تنظر إليه للحظة وكأنها لم تنتبه لوجوده.
تسمر في مكانه، حاول تذكر هدف وجوده في القاعة، لم يفلح في ذلك يركز على الطالبة، يجد نفسه مشدودا اليها، يتحرك نحوها، يقترب اليها ببطء، يحبس أنفاسه كنمر مفترس على وشك الانقضاض على غزالة ترعى على بُعد خطوات منه، يتحرك إلى جهتها ويبدأ من زميلتها التي بجنبها، يتصنع البراءة ليوهم بأنه يراقب بشكل عام، وليس مهتما بها، ثم يتحول اليها ليركز على ورقة اجاباتها فقط من أجل معرفة اسمها الثلاثي.
يا ليته لم يلاحظها لم يأت إليها!!! وكأن جمالها وعيناها الساحرتان لم تكفيا بزعزعة توازنه، اكتشف أيضا كم هو خطها جميل، وكيف تتفنن في التحكم على مسار القلم، لكنه لم يكن يعلم أن مصير قلبه سيكون على نفس مسار القلم.
إنها وردة بنت ذات تسعة عشر ربيع وفي عامها الجامعي الأول، تدرس تخصص علم الاجتماع، هي من عائلة متوسطة الحال ومحافظة، تتوسط بين ستة من الأشقاء والشقيقات، أبو وردة رجل مطوع يكثر قراءة القرآن ولزوم المسجد، أما أم وردة فهي إمرأة ذكية مهابة رغم أنها ليست من الذين يسيئون إلى الناس لكنها تعرف كيف تحاسب من يتعدى حدوده، لديها كل صفات القيادة ولولا الثقافة والتقاليد المحافظة لأصبحت قيادية مشهورة.
استاذ فريد قرر الخروج من القاعة قبل أن يكتشف أحد الاضطراب النفسي الذي يعاني منه منذ رؤيته لوردة، فخرج مسرعا، وقرر عدم ذهاب أي قاعة أخرى، فجلس في مكتبه وأغلق على نفسه الباب من الداخل، وبدأ يفكر ويسترجع الشريط، مالذي حدث له؟ ومن هي هذه البنت؟ ولماذا يشعر الانجذاب إليها؟
والمشكلة هي أنه رجل متزوج بل لديه أكثر من زوجة، وهي بعمر ابنته فطوم، فاقنع نفسه أن ما يعانيه مجرد لحظة ضعف نفس، واستغلال الشيطان الموقف، وأن كل ما عليه نقل المعركة من بينه وبين طالبة جامعته، إلى ميدان الخير والشر، والنفس الزكية ومعركتها على ابليس، قام وتوضأ وصلى ركعتين في داخل مكتبه.
شعر لحظة هدوء واسترجاع قواه، وعاد إلى مزاولة جدول عمله اليومي..
في المساء لما وصل إلى البيت وحان موعد النوم ها هو أستاذ فريد يعافي من النوم، يتقلب يمنة ويسرة، وكأن فراشه الناعم تحول إلى جلد البقر الذي كان يُستخدم ولمدة غير بعيدة كفراش للنوم عليه، والذي إلى جانب كونه غليظا كانت له أصوات مثل المواد البلاستيكية. كلما ينظر فريد إلى سقف غرفة نومه تتراى له الطالبة وردة جالسة وسط القاعة بعينيها الجوهرتين وكأنها تبتسم له وتهمس بكلمات لا يسمعها، فيستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ويتحول الى الجانب الآخر، لكن هيهات، أصبح بينه وبين النوم جفاء وجسد في بيت الشعر التالي (مع اعتذار مسبق للشاعر الكبير علي جارم) :
صحا فريد وانجاب الكرى عن عيونه***وليس لمن رامه العشق مضجع..
طلع الفجر دون أن تكتحل عينيه بالنوم، قام وصلى الصبح، وبدأ يفكر ويفكر ليعرف بالتحديد مالذي يجري معه، هل هو فعلا العشق الذي يتحدثون عنه؟ وكيف هو العشق؟ حاول أن يتذكر كيف تزوج وهل فعلا تزوج دون حب أو عشق؟ نعم لأن الأولى خطبتها له والدته، ولم يلتق بها قبل ليلة زفافه، والثانية جمع بينه وبينها معلم الخلوة القرآنية التي كانت تدرس فيها، وكان لقاء واحدا انتهى بالتوافق على الزواج بفضل دور المعلم الذي لعبت تزكيته دورا في تذليل كل العقبات، وخلال أسبوع تزوجها، اذاً لم يجرب عناء العشق طول عمره وإنما حجز لنفسه مقعدا في قطار التناسل البشري، لكنه اليوم وفي مطلع العقد الخامس من عمره يجد نفسه طريحا في فراش العشق، وضحية لسحر فتاة بعمر كريمته، اشتد عليه الأمر ولم يصل في تفكيره إلى أي نتيجة، جهز نفسه للعمل ولم ينتظر حتى تعد له الفطور.
استغربت زوجته الحال لكنها لم تسأله عن السبب، لأنها ومنذ أن تزوج عليها من سبع سنين بدأت تتحكم على مشاعر الشقفة تجاه زوجها.
فريد رجل مثقف ومخضرم ينتمي الى جيلين، تتشاطر نفسه بين الاحتفاظ بحق التعدد من منظور ديني اجتماعي رجولي، وبين اكتساب مفاهيم حداثية ومعاصرة بفضل القراءة والمطالعة والمشاهدة، والاختلاط بأمم وقوميات تختلف عن الصوماليين اجتماعيا ودينيا، من جهة هو مقتنع بالثقافة المعاصرة وجدلية التعدد وموضوعية التحفظ عليه، ومن جهة أخرى يرى أنها صحوة متأخرة بالنسبة له شخصيا ولمجتمعه، فهو متزوج باثنتين ولن يتردد في التثليث إن تهيأت له ظروفها.
وصل استاذ فريد إلى ست شاي كان من زبونها وطلب منها كوب قهوة، فأعطته على الفور مع سؤال مباغت ومغلف بمزاح قائلة له شكلك طردتك زوجتك من البيت، فأول مرة اراك في مثل هذا الوقت، وواضح أنك لم تنم جيدا ليلتك، هل من مشكلة؟.
فأبتسم لها قائلا لم يطردني أحد لكن إمرأة ما منعتني من النوم، وليست زوجتي، ثم استدرك قائلا على الأقل حاليا ليست زوجتي، ثم لاحظ أنها مشغولة بخدمة زبائن آخرين، فتمتم هكذا أحسن فبأي حق أكشف لها مكنونات صدري، دفع الحساب وغادر إلى الجامعة….