بشاشات .
الاستخارة بين الغيب الإلهي وتدبير الإنسان.
في مسيرة الإنسان نحو المستقبل تقف أمامه طرقٌ كثيرة، تتشعّب وتلتبس، فلا يدري أيَّها أصلح له، ولا أيَّها يوصله إلى الخير المنشود! قد يُقدِم على قرارٍ مصيريٍّ كاختيار الجامعة، أو الزواج، أو تأسيس مشروعٍ تجاري، وكلّها خطواتٌ تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها تحمل في باطنها نتائج قد تغيّر مجرى حياته،وهنا تتجلّى حكمة الإسلام في تشريع الاستخارة، تلك العبادة التي تربط التدبير الإنساني بالهداية الإلهية، لتجعل المؤمن يسير في دروب الغيب بثقةٍ وسكينة.
الاستخارة ليست مجرّد صلاةٍ تؤدّى في لحظة الحيرة، بل هي منهج حياة يقوم على مبدأ التسليم لله بعد بذل الجهد في التفكير والتخطيط. فالإسلام لم يلغِ العقل ولم يجمّد الإرادة، بل وجّهها لتكون ضمن إطار التوكل الواعي، حيث يجمع المسلم بين التفكير والتدبير من جهة، والتفويض والاعتماد على الله من جهة أخرى. قال النبي صلى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح:“إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم…”
إنّ جوهر هذا الدعاء يكشف عن عمق الرؤية الإسلامية للغيب والمستقبل؛ فالمؤمن يعترف بضعفه أمام علم الله الواسع، ويقرّ بأنّ قدرته محدودة مهما بلغت خبرته أو ثقافته.
هذه الروح التربوية في الاستخارة تعلّم الإنسان أدب التواضع أمام المجهول، وتمنحه راحة نفسية في مواجهة الغيب، لأنه يعلم أن اختياره – بعد الاستخارة – لن يضره إن شاء الله، حتى لو بدا له صعباً في البداية.
وفي المقابل، تُربّي الاستخارة في النفس الإيجابية العملية، فهي لا تدعو إلى التواكل أو انتظار الإشارات الغيبية، بل تحثّ على العمل بعد الاستخارة بثقةٍ وطمأنينة. فالرسول ﷺ لم يأمر من استخار أن ينتظر رؤيا أو علامة، بل أن يمضي فيما ترجّح له، مؤمناً أن الله إن أراد الخير يسّره له، وإن كان غير ذلك صرفه عنه.
من الناحية الفكرية يمكن القول إنّ الاستخارة تمثل توازناً فريداً بين حرية الإنسان ومسؤوليته من جهة، والقضاء والقدر الإلهي من جهة أخرى. فهي تذكير دائم بأنّ الإنسان حرّ في اختياره، لكنه لا يملك السيطرة على النتائج.
هذا الوعي يولّد نضجاً روحياً وعقلياً، يمنع الغرور حين ينجح، ويخفف الألم حين يفشل، لأنه يعلم أن الأمر كلّه لله.
إنّ في الاستخارة درساً فلسفياً عميقاً: أن الغيب ليس عدواً للإنسان، بل مجالٌ لظهور عناية الله ولطفه. فحين يخطو الإنسان إلى المجهول مستعيناً بربه، يصبح الغيب مصدرَ طمأنينة لا مصدرَ خوف. ومن هنا، فإنّ المؤمن يمشي في الحياة وهو يدرك أنه لا يعلم ما الذي أمامه، لكنه يعلم من الذي بيده الأمر كله، وهذا هو لبّ الإيمان وغاية الاستخارة.