إن ربانية الفكر الإسلامي وعالميته، وغزارة تراثه وشموليته، وصلاحية أحكامه لكل زمان ومكان ومرونته، كانت هي التربة الخصبة لانبثاق مدارس فكرية إسلامية معاصرة، إثر الهجمة الاستعمارية التي استهدفت عقول المسلمين قبل بلادهم، فكانت هذه المدارس بمثابة المقاومة الفكرية للغزو الأيدلوجي المصاحب للاستعمار العسكري.
وهذه المدارس الفكرية ـوالمعروفة بالصحوة عند النخبة، لكل منها اسمها ورسمها، ولكل قوم سنة وإمامها- قد انتشرت في طول بلاد المسلمين وعرضها، واختلفت آراؤها الاجتهادية لعلاج القضايا المستجدة في ساحة العمل الإسلامي، مستأنسة بإرث المنطقة التاريخي والمذهبي والحضاري، مستلهمة من واقع الحياة ومتطلبات العصر، كل منها على قدرها.
وكان القاسم المشترك بين جماعات الصحوة هو ثورتها غيرةً للإسلام وشريعته، وللدين وثوابته، وللمجتمع وحرمته، وللإنسان وكرامته، وسدّت كل طائفة –ساعة المواجهة- ثغرة لولاها لما وُجد للإسلام بقية في بلادها، ولما كان للدين مكانة في أرضها، وذلك بمشيئة الله وإرادته، إذ كانت هذه المدارس تربّي أبناءها على عقيدة الولاء والبراء، وتلقنهم معاني الأخوة في الله، وتنشئهم على محبة المسلمين لا لشيء إلا في الله.
والصومال جزء من عالمه الإسلامي والعربي، ومن محيطه الإفريقي الذي طالته يد المستعمر، وكغيره من أبناء البلاد الإسلامية ثار أهله وكسحوا جيوش المستعمر، وأخرجوهم نهارا يجرون ذيول الخزي والعار نادمين على اليوم الذي وطئت فيه أقدامهم أراضي بلاد الصومال، إلا أن المستعمر ترك أمة مفصومة عن تراثها، بعيدة عن حضارتها، متنكرة لثقافتها، فكان لا بد لعلمائها أن يغاروا لها كما فعل نظراؤهم العلماء في العالم الإسلامي.
وقد صحا علماء الصومال من غفوتهم، وأفاقوا من غفلتهم، وتحركت سفينة الصحوة الإسلامية وركبها “بسم الله مجرىها ومرسىها” خلق كثير لا يحصون عددا ولا نسبة، وانتمى إليها جماهير غفيرة بين السوقة والنخبة، ولا يزال حبلها ممدودا، وعملها مشهودا.
ولما كان “الحكم على الشيء جزءا من تصوره” وكان التصور ناشئا من اجتماع عوامل عدة وأسباب مختلفة، تبعا لذلك انقسم الناس في حكمهم عليها بالإجمال فرقا أربعة:
الأولى: معادية للإسلام جملة وتفصيلا، وهم على درجات.
الثانية: معادية للحزبية تحت عباءة الدين، وهم على أنواع.
الثالثة: محايدة، تقبل الحسنة وترد السيئة.
الرابعة: مجرّبة انتظمت في صف الحركات ثم انفصلت عنه طوعا أو كرها.
ولكل من هذه الفرق أسلوبه في التعامل مع الصحوة الإسلامية، ولكن الحقيقة تظل أن الصحوة قد اكتوت من أذى بعضها في فترات، وسمعت من بعضها الآخر أذى كثيرا ولا تزال، وخذلها البعض في أحلك الظروف خوفا من التبعات أو على المصالح والحظوظ.
وكان هذا واحدا من الأسباب والعوامل التي أعاقت نمو الصحوة الإسلامية، ووضع الحواجز في طريقها لتحقيق غاياتها المنشودة، حتى كادت الصحوة تفقد سيطرتها على أعصابها، وتعجز عن احتواء أزماتها، وتتآكل مفاصلها، وتنقسم فيما بينها، وتنقلب على مرجعياتها، في مشهد ليس بدعا في الصومال، ولكنه كان أكثر قابلية للتصدع، مع امتلاكه أكبر فرصة للرأب، مثله مثل جميع القضايا الصومالية، تتوافر لها عوامل الحلول بقدر ما يتعذر تنزيلها على الواقع.
ويُضمُّ إلى هذا العامل عوامل أخرى أدت إلى ضعف كيان الصحوة الإسلامية وهيكلها، وأثرت على قوتها وهيبتها، وشتت جهودها ومقدراتها ومن أهمها:
أولا: تزامن قيام الصحوة مع الحكومة العسكرية: من حسن طالع الصحوة الإسلامية أن صادفت ولادتُها عنفوان الحكومة العسكرية وقوتها، والتي جاهرت بمعاداتها لتعاليم الإسلام، واعتمدت الشيوعية العلمية مذهبا رسميا للدولة، وأعلنت عن مبادئ الاشتراكية الماركسية نظاما للبلاد، وانتقدت ثوابت الشريعة على ألسنة القادة في السلطة الدستورية والعسكرية، ثم فرغت لملاحقة كل الغيورين للإسلام من أتباع الصحوة وغيرهم، حتى وصل بها الحال إلى اقتياد العلماء إلى الزنازن والسجون وتعذيبهم فيها ثم أخذهم إلى حبال المشانق إئر مسرحيات محاكمة هزلية.
فكادت الصحوة الصومالية من شدة الاضطهاد وقوة القهر تموت في مهدها، لولا سقوط الحكومة العسكرية وانهيار الدولة الصومالية، بأيدي الجبهات المسلحة، والملشيات القبلية، فكان هذا الانهيار نقطة تحول في تاريخ الصحوة الإسلامية في الصومال إذ تحررت عن القيود وخرجت من طور السرية، وانفتحت على المجتمع عبر مؤسساتها الاجتماعية وهيئاتها الدعوية، فصارت هي البديل عن الحكومة المركزية، فعملت في الإغاثة إبّان موجات القحط والجفات التي ضربت البلاد في سنوات الموت العجاف إثر انهيار الدولة، وقادت مبادرات السلام والمصالحة بين الأطراف المتنازعة والمجموعات المتناحرة فترة احتدام الحروب الأهلية واشتعال فتيل الفتنة القبلية، وأحيت الحلقات العلمية في المساجد والنوادي وفتحت المدارس وأعادت المنظومة التعليمية إلى مسارها الطبيعي، وواكبت العالم الإسلامي والعربي بإمكاناتها المتواضعة، وبعد نجاحها في التعليم العام شمرت عن ساعد الجد يحدوها الأمل لإنشاء جامعات تستوعب الأعداد الهائلة من الحاصلين على الشهادة الثانوية لإعطائهم فرصة الالتحاق بالتعليم العالي.
ومن الإنصاف أن يقال: إن للصحوة الإسلامية فضلا على كل متعلّم صومالي -أيا كان مستواه التعليمي- قد أخذ جزءا من دراسته أو عاش فترة من عمره في الصومال بعد انهيار الحكومة المركزية 1991م، ولسنا بصدد البرهنة على ذلك ولا نريد به جزاءا ولا شكورا “إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم”.
ثانيا: التركيبة الصومالية القبلية: هذا المجتمع الصومالي البسيط في ظاهره معقّد في تركيبته القبلية، ليس من حيث شجرة النسب الصومالي فهي أبسط ما تكون، ولكن من حيث التفكير القبلي بمنطق المصالح والمكاسب، على مستوى أفراد القبيلة الواحدة وعلى مستوى القبائل المتعددة.
ببساطة ،،، لم يستطع الإنسان الصومالي أن يكون فردا صحويا متحررا عن القبلية، إنسانا حركيا لا يتأثر بما تتأثر به قبيلته، شخصا إسلاميا يتخطى حدود الزمان والمكان، ويترفع على النفعية المحدودة، والمصالح الشخصية، فتأثر العمل الإسلامي كما الدولة الصومالية بمضاعفات داء القبلية، وفي أحسن حالاتها تضررت من المحسوبية والجهوية، تماما كما هو حال كثير من الصحوة الإسلامية في بلاد تشبه الصومال في تركيبتها الاجتماعية.
ثالثا: الخلافات الفكرية بين الحركات الإسلامية: إن اختلاف مشارب الحركات الإسلامية في الصومال أدى إلى اختلافها في الوسائل، وإن اتفقت في الغاية وهي نصرة الدين، وإرساء قيمه في واقع الأمة.
ولا غرو فإن الإنسان الصومالي الصحوي مأخوذ عليه نقله تجارب الآخرين دون غربلتها أو تكييفها للواقع الصومالي، ولهذا وجد كثير من المنتقدين للصحوة الإسلامية مسوغا لنقدهم في هذا المأخذ، فجعلوا يرددون: “إن أفكار الصحوة الصومالية مستوردة” في تجاهل من هؤلاء بتشابه الظروف التي أدت إلى قيام الصحوة في العالم الإسلامي قاطبة، وهي مواجهة الغزو الفكري الذي تركه ولا يزال يغذيه الاستعمار العسكري.
وإذا فرضنا جدلا أن “أفكار الصحوة الصومالية مستوردة” فما نسبة المستورد المصطدم بالثقافة الصومالية وواقع البيئة، والذي يجب تكييفه وتعديله؟ّ!.
يحاول البعض الجواب عن هذا السؤال فيخرجون تماما عن الموضوع ليفتحوا قضية أخرى لا علاقة لها بالفكر وبالصحوة لا عن قرب ولا عن بعد، وهؤلاء المحاولون هم القائلون: بأن بعض الحركات الصومالية تدعو إلى اعتناق المذهب الحنبلي، أو تدعو إلى التمسك بالكتاب والسنة ونبذ المذهبية.
ولسنا بصدد الخوض في تفاصيل هذه الجزئية إلا أنه لا بد من توضيح أن هذا الجواب خروج عن الموضوع، وذلك لأمرين:
الأول: ادعاء أن حركة ما دعت الناس إلى اعتناق المذهب الحنبلي بحاجة إلى إثبات، وإذا ثبت فإن الانتقال من مذهب إلى مذهب ليس من قضايا الصحوة ولا من أهدافها، فغايتها إعادة الأمة إلى دينها، وهدفها إنزال الإسلام إلى واقع الحياة، وكل من المذاهب الفقهية يصدُق عليه مصطلح الدين والإسلام.
الثاني: شبهة نبذ المذهبية: لا تصلح حجة لانتقاد جميع مكونات الصحوة إذ إن المذاهب عبارة عن فهوم بعض العلماء للكتاب والسنة، وروي عن بعضهم ما معناه: “إذا صح الحديث فهو مذهبي” فإذن المحكّ في البحث عن الأصل القويم والدليل الصحيح وتحريه، وهذه مسألة أليق بها في المجالس العلمية المتخصصة منها بساحات العمل الإسلامي، وإن كان العمل الإسلامي بحاجة إلى تعهده بالتقويم والإصلاح.
رابعا: التصدعات الداخلية في الجماعة الواحدة: الإنسان الصومالي عموما لا يتمتع بلباقة في الخصومة، ولا يعرف المجاملة، ويصعب عليه التغليب بين المضارّ لتصرفه بمحض العاطفة، وهذا كله ينعكس على سلوك الجماعة الصومالية، سواء كانت جماعة فكرية أم قبلية أم سياسية وحتى الشركات المالية.
ولهذا ظهرت ثلمات وصدوع على جدار الجماعة الواحدة، وتنازعات وشقاقات ترجع في الأساس إلى اختلاف في وجهات النظر، وعجز عن إدارة تقاطع مصالح الأفراد والمجموعات، ثم انشطرت بعض الحركات إلى كتل، وتفرقت إلى مجموعات، وبعضها تكاثرت وتفرعت حتى اختلطت خيوط فروعها، وانطمست جداول مدارسها.
والحقيقة أن الصحوة الإسلامية في الصومال قد اجتازت أكبر اختبار خاضته صحوة إسلامية في العالم الإسلامي بامتياز، وذلك لأنها استطاعت أن تتغلب على هذه التحديات وأن تتخطى هذه العقبات، وأن تحافظ على مؤسسيتها الصحوية، وعلى هيكلتها الحركية، دون أن تنصهر تماما في بوتقة المتغيرات المادية والمعنوية، ودون أن تضحّي بمبادئها الفكرية والأيدلوجية.
ولكنها بقيت منهكة جراء هبوب الرياح العاتية من جنوب وشمأل، فتارة صبا وأخرى دبور، بين تعصبات المنتسبين، وبين هجمات المنتقدين، ولكن ينبغي أن يكون قد أكسبها ذلك نضجا، ومنحها القوة للمضي في أداء الأمانة التي على عاتقها، وتبليغ الرسالة التي على كاهلها، ماضية في سبيل ربها صحوةً إسلاميةً لا تؤثرعليها صداقةٌ شرقية، ولا تضرها عداوةٌ غربية.