في منشوري السابق تحدثت عن أهمية الديمقراطية في السياسة واهمية مشاركة الحكام الناس في إدارة شئونهم والا يعاملوهم معاملة القطيع بل كمواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات. والحاكم ليس الا فردا منهم اختاروه لرعاية مصالحهم العامة، يراقبونه ويعينونه اذا اصاب ويصوّبونه اذا اخطا. فالأمة هي صاحبة السلطة العليا في تعيين الحاكم وفِي مراقبته. وعلى الحاكم طاعة المحكمومين في تنفيذ ارادتهم ومصالحهم. وليس على المحكومين – على العكس مما يتوهمه كثير من الناس طاعة الحاكم الا في حدود تنفيذ مصالحهم العامة.
نتحدث اليوم عن أهمية الشورى ليس في السياسة فحسب بل في ساير شيون حياتنا. نريد ان تسود الشورى لدى الآباء في البيوت والمدرسين في المدارس او الجامعة والامام او الخطيب في المسجد والعلماء في حلقاتهم.
لقد ولى العهد الذي كان الأب يستبد الرأي في شيون بيته يصول ويجول ويأمر فيطاع وينهي فيرتدع. يدخل البيت مغيظا محنقا يلطم هذا ويركل هذه ويوعد ذا وينذر ذاك فيتحول البيت الى سجن كبير يسوده الوجوم والسكون. واذا سمع حركة من لهو او لعب حملق وزمجر وارعد وازبد، فلا الأطفال قادرون على للعب ولا الزوجة قادرة على تحريك آنية من اواني البيت. فالبيت شراكة قايمة على التراضى في العقد والشورى في الادارة. ينبغي ان يكون الاب ديمقراطيا يشارك زوجته واولاده في تدبير شيون البيت. فالرجل هو المسئول في البيت ولكنها مسؤولية تشريف منضبطة بالشورى والحوار.
وينبغي على المدرس في المدرسة او الجامعة ان يضع العصا عن عاتقه ويحمل المشعل الذي يضيئ الطريق ويحاور طلابه ويشجعهم على النقاش والنقد. فلقد ولى العصر الذي كان فيه الاستاذ هو المحور في العملية التعليمية، يعد الدرس ثم يلقنه للطلبة وينقبض عن اي محاولة من الطلبة لإبداء رغبة في النقاش او حتى مجرد توجيه سؤال للاستاذ. ففي النظريات التعليمية الحديثة يكون الطالب مركز العملية التعليمية مشاركة ونقاشا ونقدا ويكون دور الاستاذ دورا توجيهيا وإرشاديا. ومن الأهمية بمكان ان تكون مدارسنا وجامعاتنا ساحات لتدريب ابنائنا وبناتنا على النقاش الحر والنقد وتقبل الرأي الاخر واحترامه.
وكذلك الامام في المسجد يستحسن ان يحوز رضا المأمومين عنه ويشاورهم في الطريقة المثلى لنجاح مهمته في الإمامة، فلا يطيل عليهم الصلاة او يقصرها دون رضاهم، ولا يتقدم احد على الإمامة في المسجد دون اختيار المأمومين ورضاهم. وقد ورد في الأثر “ان الله لا يقبل صلاة من أمّ قوما وهم له كارهون”. وما ينطبق على الامام ينطبق على الخطيب يشاور الناس ويسألهم عن الموضوعات التي يرونها في حاجة الى البحث والخطابة، فلا يستبد برأيه ويلقى على الناس خطبا معدة من قرون مضت او أعدها هو بنفسه ولكنها منبتة ولا تمت اي صلة بواقعهم،
ويحسن للعلماء ايضا ان يحاوروا الناس ويشاركوهم في فهمهم للنصوص الدينية. ولقد انتهى العصر الذي كان الناس ينقسمون فيه الى علماء دين يفهمون النص وحدهم وعوام يستقبلونه دون سؤال ونقاش. فليس لدينا اليوم عوام على معناها التقليدي وانما لدينا علماء متخصصون في مجالات مختلفة من العلوم وليس الدين الا مجالا واحدا من تلك المجالات. فالعامي التقليدي اليوم عالم متخصص في جزئية من جزيئات العلوم، والعالم الديني يحتاج الى تلك العلوم في قراءته للنص الديني وفهمه فهمًا مستوعبا. وحاجة العالم الديني الى العلوم الاخرى تتاكد في مرحلة ما بعد الفهم النص وهي مرحلة فهم الواقع مما يتطلب توظيف ادوات وعلوم اخرى ( اجتماعية وانسانية وما الى ذلك) قد تكون خارج نطاق تخصصه. وهنا يكون العالم الديني مضطرا للتشاور مع اصحاب التخصص في تلك المجالات لالقاء الاضواء الكاشفة في الزوايا الخفية للموضوع قيد البحث. واذا انتقل الامر الى مرحلة التطبيق تتسع المشاركة وتشمل اولو الامر ومن بيدهم السلطة. وهكذا دواليك.
والخلاصة، ان عهد الاستبداد قد ولى سواء كان ذلك في السياسة او في الاسرة او في المدروسة او في الدين او في غير ذاك من شيون الحياة. واذا كان ابن ابي ربيعة قد قال قديما “إنما العاجز من لا يستبد” فإننا نقول إنما العاجز من لا يشاور.