إذا قرأت القرءان بتأنّ وبتدبّر عميق وعقليّة حرّة وفاحصة لا تتهيّب ولا تخشى لومة لائم وبعيدة عن التّقليد الأعمى فإنّك ستكتشف أنّ الكفر والإيمان هو مسألة اختيار وليس مسألة إكراه بتّأنا. والإنسان حرّ في اختيار العقيدة الّتي يريدها بدون تدخّل ولا إكراه. وأنّ دين المكره ليس معتبرا ولا مقبولا عقلا ولا شرعا.
من سورة البقرة في قوله تعالى: ” لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ” إلى قوله تعالى: ” لكم دينكم ولي دين”.
يبيّن القرءان ويفصّل أنّ مسألة الإيمان والعقيدة هما مسألة لا تقبل التّدخل والإكراه. ولا يوجد أيّ عقاب دنيويّ تجاههما وإنّما حسابهما وعقابهما في الآخرة.
انظر قول الله تعالى في سورة النّساء:”إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا”.
لم يأمر القرءان قتل اولئك المذبذبين بين الكفر والإيمان، رغم أنّهم كفروا مرّات ومرّات متكرّرة.
وانظر قول الله تعالى في سورة يونس: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ”.
هل لاحظت كيف تنكر الآية – وبشدّة – إكراه النّاس بالإيمان؟
وانظر كذلك قول الله تعالى في سورة هود:”وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ”.
وهل لاحظت كذلك من توجيه هذه الآية أنّ الأختلاف هو مشيئة إلهيّة لا يمكن الوقوف أمامها وسنّة كونيّة لا تتبدّل ولا تتحوّل؟
وانظر قول الله تعالى في سورة الرّعد:” أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ۗ “.
وانظر كذلك قول الله تعالى في سورة الكهف: “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”.
والحمد لله وضوح معنى هذه الآية هو كوضوح الشّمس في رابعة النّهار لا سحاب عليها.
وانظر كذلك قول الله تعالى في سورة الزّمر: “إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ”.
والمعنى أنّ الله لا يرضى لعباده الكفر ولكنّه لا يكرههم بالإيمان ولا يأمر عقابهم في الدّنيا.
وفي سورة النّساء قال الله تعالى: ” ۚ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا”.
وانظر كذلك قول الله تعالى في سورة الغاشية: ” فذكّر إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ”.
أمّا مسألة الردّة فالقرءان لم يتحدث عقوبات دنيويّة وإنّما تحدّث عن عقوبات أخرويّة.
انظر هذه الآيات في سورة البقرة: “ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون”.
وكذلك انظر قول الله تعالى في سورة المائدة:”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ”.
وكذلك قول الله تعالى في سورة محمّد:”إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ۙ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ”.
كل هذه الآيات تدلّ على أنّ مسألة الرّدّة ليس فيها عقاب دنيوي وإنّما الحساب والعقاب في الدّار الآخرة. وإلّا كيف يقبل إيمان مكره غير حرّ؟ فهو بمثابة مرفوع القلم.
وبسبب أنّ نفس الإنسان مهمّة ومصونة فإن الله تعالى قد أباح للمكره أن ينطق بالكفر لسانا طالما أنّه يضمر إيمانه في قلبه صونا للنّفس ورفع الضّرر الحاصل في حالة الإصرار بالعقيدة.
قال تعالى في سورة النّحل:” مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ”.
الإخوة الكرام: بعد كلّ هذا ألا تحتاج منّا هذه المسائل وغيرها من المسائل التي نتعاملها بتقليد أعمى إلى دراسات متأنّية ومراجعات فاحصة وبعيدة عن التّقليد الأعمى؟