خواطر عابرة، وذكريات غابرة، أسطرها عبرة، وأنقلها فكرة، يقرؤها من شاء تسلية، ومن شاء تقوية، فالقصص والمواقف مغذيات ومحركات ومهدئات، والأساطير والحوادث مشجعات ودافعات ورافعات، يخضع تأثيرها لقوة أجهزة الاستقبال عند المتلقي، ولا شك أن مفعولها يتوقف على تصور المُلقي، (وما خرج من الفم وقع في الأذن، وما خرج من القلب وقع في القلب) مصداق ذلك قوله تعالى: إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) ق.
البدايات الأولى:
ولدت في مقديشو –عاصمة الصومال- وتربيت فيها وتلقيت تعليمي العام، ودرست في مساجدها وحلقاتها، وقبل ذلك حفظت القرآن الكريم في خلاويها، وعلى يد الوالد الشيخ معلم محمد معلم حسن حفظه الله ورعاه ومن كل سوء وقاه.
التعليم والتلقي:
وواصلت تعليمي العالي في أروقة الجامعات بجمهورية السودان، واستمررت في الدراسات العليا، وحظيت وقت الطلب بلقاء علماء نبلاء وشيوخ أجلاء وأساتذة فضلاء، ما منهم إلا وقد أفادني وأغدقني فأنا لهم مدين.
الرحلة والصحبة:
وخلال تلك الرحلة رافقت جما غفيرا من طلاب العلم وزاملت كثيرا من حملته وصاحبت نخبة من خيرة نقلته، من مختلف المستويات والتوجهات والتخصصات والجنسيات، فجرت بيننا المعاملة والمعاشرة والمخالطة، في قاعات الدراسة وحِلَق العلم وجلسات المؤانسة، ومجالس السمر، وعلى موائد الطعام ومقاهي الشاي، والحمد لله الذي سترني وأكرمني وعصمني، قال تعالى: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ۗ) يونس الآية 2، قال ابن عباس: سبقت لهم السعادة في الذِّكر الأَوّل. وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه … إلى أن قال: ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد …). اللهم ظني بك حسن، فاجعلني ممن كتبتهم سعداء.
دائما في بالي قول سيدي الشيخ الرئيس محمد بن إدريس رضي الله عنه:
وكن رجلا على الأهوال جلدا
وشيمتك السماحة والوفــــاء
العمل والسيرة:
نزلت إلى ميدان العمل 2009، فانتظمت في المجال الأكاديمي حيث عملت محاضرا في جامعات الصومال من شماله إلى جنوبه: عملت في أكثر من عشر جامعات -لا زلت أعمل في بعضها حتى لحظة كتابة هذه الأسطر- لم أتقلد منصبا إداريا سوى بعض المناصب اللصيقة بمقتضيات التعليم أكثر منها بمتطلبات الإدارة كرئاسة الأقسام ورئاسة لجان المناقشة ونحوها، ما نشر ذكري وأظهر أمري وأخفى سري، خلقت لي أصفياء وأصدقاء وأحبّاء، وما أجمل الصفاء إذا خالط الصداقة وزينهما الحب، فيخجل الإنسان من نفسه وهو يسمع إطراءه ممن لا يعرفه يحدثه عنه ببراءة، وهو لا يعلم أنه مخاطبه، اللهم سلم اللهم سلم، عن أبي ذر الغفاري- رضي الله عنه – قال: قيل لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ قال: (تلك عاجل بشرى المؤمن) رواه مسلم.، أسأل الله أن يجعلها بشرى عاجلة.
مواقف وطرائف:
كنت متنزها في ضواحي المدينة فحضرت صلاة المغرب فعمدت إلى زاوية قريبة – واثقا أن لا أحد يعرفني في المنطقة- فقصدت مكان الوضوء فوجدته مزدحما، تنحيت جانبا، فإذا برجل يكبرني سنا يقدمني مناديا أياي بالخليفة، وحلف يمينا لا يتوصأ إلا بعدي، فسألته من أين يعرفني؟، فقال: وهل ثمَّ من لا يعرفك – وسرد أوصافا ومدائح كنت أستحيي عند سماعها فكيف أقوى على نقلها؟- وأخبرني أن معه صورتي في موبايله لأني درّست أولاده في الجامعة، فكانوا يحدثونه عني، وكنت أحبَّ الأساتذة إليهم، فلما رآني خطر له أن هذه فرصته ليكرمني، أكرمنا الله جميعا وعافانا.
أدت ظروفي الخاصة إلى ترك إحدى المؤسسات التي كنت أعمل فيها، وبعد فترة صادفت في الطريق مجموعة من طلاب تلك المؤسسة وطالباتها في شارع عام، وبعد التحية والسلام، وانتظام الكلام، سألوني عن سبب اختفائي، فأخبرتهم بالذي كان، فحزن اللقاء،،، وذرفت عيون ونحبت حلوق، وعبّروا لي عن مدى افتقادهم لي، جزاهم الله خيرا إذ أحسنوا الظن، وأظهروا الحُسن.
قبل أيام سمعت خشخشةً من ورائي، فإذا بمن عرفت رسمه دون اسمه، فحيّاني بالحسنى، فحييتُ بأحسن منها، وبعد مجاذبة أطراف الحديث، روى لي قصة حضرها منذ عام مضى: أن إداريا سـأل طالبا عمن هو قدوته من بين الأساتذة الذين درّسوه طول حياته، فردّ الطالب بعفوية دون تفكير: النفس الضعيفة أبو بكر الخليفة، هذا الطالب كنت أستاذه قبل خمس سنوات أو يزيد، فقال الإداري: وددت لو أني لقيت ذلك الخليفة، والحقيقة هي أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، اللهم اجعل ذلك لسان صدق لي في الآخرين، قال تعالى: وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84 ) الشعراء قال ابن كثير: واجعل لي ذكرا جميلا بعدي أذكر به، ويقتدى بي في الخير، اللهم آمين.
ولله در أمير الشعراء أحمد شوقي حيث جمع بين قدم الصدق وسيرة الصدق ولسان الصدق ققال:
فلا تَحتَقِرْ عالَمًا أَنتَ فيه
ولا تجْحَدِ الآخَرَ المُنْتَظَر
وخذْ لكَ زادينِ : من سيرة
ومن عملٍ صالحٍ يدخرَ
وكن في الطريقِ عفيفَ الخُطى
شريفَ السَّماعِ، كريمَ النظر
ولا تخْلُ من عملٍ فوقَه
تَعشْ غيرَ عَبْدٍ، ولا مُحتَقَر
وكن رجلًا إن أتوا بعده
يقولون : مرَّ وهذا الأثرْ”
ليست البطولة في المرور وإنما في ترك الأثر، وإن أردت فانظر إلى سير الأنبياء والأولياء والأصفباء، مرّوا وأثَّروا، وبالمقابل أين الجبابرة والعصاة والظلمة الذين عاصروهم مرّوا وغبروا.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وآخر دعوانا بتوفيق ربنا
أن الحمد لله الذي وحده علا
Post Views: 13