عبدالفتاح نور أحمد
وزير الدولة للإعلام والثقافة والاتصالات-حكومة بونتلاند الصومالية
تدور حالياً في الصومال معركة حامية الوطيس، تتنوّع طرقها وأساليبها بأشكال ووسائل مختلفة بين الأطراف من مدافعي النظام الفيدرالي (الحكومات الإقليمية) والمركز (الحكومة الاتحادية) التي ترى قوة ونفوذ الأقاليم تحدياً خطيراً على عرشهم، ما يشكل تهديداً ينسف جهودهم ومساعيهم في التفرّد بالقرار.
وهو تحدٍّ غير وارد -بالنسبة لي- ذلك أن سر نجاح الحكومة الاتحادية يكمن في التقرّب أكثر للأقاليم الصومالية عبر سياسة الاستقطاب، واحتواء الأزمات، وامتصاص الغضب، وهي استراتيجية قومية تضمن استمرار المشروع الفيدرالي وقيادة البلد نحو بر الأمان.
ما شهدناه خلال الأشهر التسعة الماضية من عمر الحكومة الفيدرالية الحالية، جسّد عكس توقعاتنا فيما يتعلق بتنفيذ المشروع الفيدرالي؛ بل انتهج مساراً أكثر عدوانيةً بذلك النظام؛ الذي ارتأته الأطراف الصومالية المتباينة الرؤى بعد مخاضٍ عسير لولادته..
في كتاب لرئيس الوزراء الصومالي السابق عبد الولي علي غاس، الصادر قريباً والمعنون بـ”تحديات الخروج من المرحلة الانتقالية”، تحدث فيه أن “النظام الفيدرالي هو الأسلم لتضميد الجروح الغائرة، وإعادة ما انفلت من مقومات الروح الوطنية وفق حكومة اتحادية جامعة تضمن توزيع السلطة والثروة بصورة عادلة ترضي الجميع”.
الفيدرالية.. هل يمكن تطبيقها في الصومال؟
قبل الحديث عن مضار ومنافع الفيدرالية، وصيغها وأشكالها المختلفة، دعونا نتفق على أولاً: أن الكيان الصومالي انهار بسبب القبضة الحديدية لنظام العسكر بقيادة الجنرال محمد سيّاد بري، وبروز المعارضة التي صاغت مطالبها بحرمانهم من التعبير، وتجريدهم من أبسط حقوق المواطنة للفرد الصومالي، وتهميش الأطراف، وليّ ذراع كل من تسوّل له نفسه الاصطفاف خلف مطالب أهله، وهو ما أشعل فتيل الأزمة الصومالية.
وإذا قرأتَ بتمعّنٍ مذكرات الرئيس الصومالي الراحل عبد الله يوسف “النضال والمؤامرة” تستنتج أن حل الأزمة الصومالية لا يتم إلا عبر توسيع قاعدة التشاور، وإشراك كل القوى والجماعات في العملية السياسية، منهج الإقصاء لا يزيد -فقط- سوى مزيد من الاحتقان، والمركزية لا تنفع مجتمعاً مثل الصومال يقوم على مبدأ الفيدرالية القبلية، وديمقراطية تحت ظلال الأشجار الوارفة.
ما نحتاجه هو قولبة الديمقراطية الصومالية التقليدية بشكل قبلي يحافظ التوازنات، ويمنع التصادم، إنها عملية لا تتطلب -برأيي- سوى التوفيق بين نصوص الديمقراطية، والفيدرالية القبلية وفق نظامٍ عشائريٍ فريد من الناحيتين: الشكل والمضمون.
في مؤتمر جيبوتي الأول (يونيو/حزيران من عام 1992)، وبمشاركة كل الأطراف، من سياسيين ومثقفين والمجتمع الدولي، اتفق الصوماليون في بنود تاريخية عزّزت مبدأ الفيدرالية، وطرحت بكل جرأةٍ فكرة الحكومات الإقليمية لتتولى بنفسها مهمة تنمية مناطقهم وفرض هيبة الدولة فيها، وهو اتفاق مثّل تجسيداً لرغبة كل القوى، فهل يُعقل أن تتجاهل الحكومة الفيدرالية اليوم هذا الاتفاق -الذي نحتفظ بنسخة منه على الرغم من مرور أكثر من 20 عاماً- وتضرب بعرض الحائط كل مساعي الوئام وجهود المصالحة!
الأزمة الخليجية:
ألقت الأزمة الخليجية بظلالها القاتمة على الصومال؛ حيث قررت 4 دول عربية هي: السعودية والإمارات والبحرين ومصر، حصار دولة أخرى شقيقة وهي قطر. الموقف الأخلاقي -على الأقل- كان يتطلّب الحيادية حِيال تلك الأزمة المستجدة، وتدعيم خيار الحوار بين الأشقاء وحلحلة أزمتهم؛ حفاظاً على التوازن، كان مطلباً عقلانياً. لكن السؤال الملحّ هو: لماذا اختار الصومال هذا الموقف الحيادي الذي يخدم -بالطبع- مصالح دولة قطر؟ ولماذا لم يتم التشاور مع الحكومات المنضوية تحت عباءة الفيدرالية؟!
يتبادر إلى ذهن القارئ العربي سؤالٌ هو: ما دخل الولايات الصومالية في البتّ بالقرارات المصيرية، والدستور الصومالي ينص صراحةً في بنده الـ54 على أن العلاقات الخارجية، والعملة، والدفاع، والجواز الصومالي شأن اتحادي محض لا علاقة له بالحكومات الإقليمية، نعم ذلك صحيح ولا غبار عليه، عند قراءة بند الـ53من الدستور الفيدرالي الصومالي ينص أيضاً على أن تُشرك الحكومة الفيدرالية الولايات الصومالية في القرارات المصيرية.
ولم يتم تمرير القرار في مجلس البرلمان ولا حتى مجلس الشيوخ، وهو ما يضع فوق القرار أكثر من علامة استفهام وسؤال مشروع.
والقرار ليس بدعاً من قرارات الصومال التاريخية في الخلافات العربية بدايةً من كامب ديفيد، ووقوف الصومال إلى جانب جمهورية مصر العربية في أزمتها الممتدّة (1969-1989) بعد أن قاطعها معظم العرب؛ باستثناء الصومال وسلطنة عُمان، ونقل مقر الجامعة العربية من مصر إلى تونس الخضراء، وانتخاب أمين عام الجامعة العربية التونسي الأصل شاذلي القليبي، وهو العربي الوحيد خارج مصر تولى هذا المنصب؛ إذ ظل المنصب حكراً على المصريين.
تبعه موقف الصومال من الأزمة الكويتية-العراقية عام 1991، ووقوف الصومال إلى جانب الكويت وقفةً بطولية، خالف فيها الصومال كل التوقعات العربية، وما زال الصومال يجني حتى اليوم ثمار ذلك الموقف البطولي والمشرف، عرفتُ شخصياً خلال زيارتي إلى الكويت أواخر عام 2015 أن التعليم الأساسي والثانوي مجاني لأبناء الجنسية الصومالية؛ تكريماً لنا في موقفنا البطولي.
في الجزء الأول من مذكرات حاكم الشارقة محمد بن سلطان القاسمي المعنونة بـ”حديث الذاكرة”، يذكر موقفاً غريباً صادفه في أثناء لقائه الرئيس الصومالي الراحل محمد سياد بري، بعد حديث طويل جرى بينهما، صبّ الرئيس الصومالي جام غضبه على العرب والأيديولوجية الإسلامية بنبرة عالية شديدة تخلو من اللباقة الدبلوماسية، وكان القاسمي يود إبلاغه أن الإمارات تدعم الصومال بمشاريع تنموية ومساجد تُبنى في الصومال، رفض الرئيس بري بناء المساجد رفضاً قاطعاً، وبعد أن شعر بأن الأموال الإماراتية عائدة من حيث أتت لا محالة، وفي حال لم يوافق الصومال وفق ما هو مخطط فلن يتم شحن التبرعات في الصندوق القومي، حينها وافق على تنفيذ المشاريع قائلاً: “ما دامت هذه المساجد تُشيّد للصوماليين وفوق ارضنا، فلا مانع لديّ من الرضوخ وقبول طلبكم”. هذه هي لغة المصالح بين الدول ومبدأ المنفعة للجميع.
بعد موقف حكومة الصومال الفيدرالية الحيادي، اتّخذت دولة قطر عدة إجراءات بهدف فكّ العزلة والحصار المفروض عنها؛ من ضمنها: إعفاء تأشيرة الدخول لدول كثيرة لم يكن الصومال -للأسف- ضمن تلك الدول، ووسّعت قطر علاقاتها الاستراتيجية أيضاً مع الدول التي اتخذت مواقف مشابهة كالسودان وإثيوبيا وعُمان عبر شراكات اقتصادية وتنموية مستدامة، أين الصومال من تلك الشراكات والتحالفات الاستراتيجية القائمة بلغة المصالح؟ سؤال مشروع أوجهه بهدوء وتأنٍّ إلى حكومتنا الفيدرالية؟
توصيات للخروج من الاحتقان السياسي:
الصومال فوق صفيح ساخن يغلي بفعل تأثير العوامل الخارجية، وأجواء ملبّدة بغيوم الخلافات السياسية الداخلية، وللخروج منها أقترح الآتي:
1- في كل خلافٍ ينشأ بين البشر مردّه سوء تفاهم ناتجٍ عن بنود وقرارات غير ناضجة، تتجلى تلك الرؤية -المتمثلة في عدم نضوج القرارات- المواقف التي تتخذها الحكومة الفيدرالية، وتصادمها المتكرر مع الحكومات الإقليمية، بدل احتوائها بما يخدم مصلحة الصومال، ولتجنب ذلك ندعو إلى تكملة مشروع صياغة الدستور الصومالي.
2- السعي من أجل إقناع كل الشركاء والأطراف الصومالية، وتطبيق نصوص وروح الفيدرالية الداعية إلى إشراك الأقاليم في العملية السياسية والتنموية للبلاد لينهض الصومال من كبوته بعد طول سبات.
3- عدم إقصاء القبائل ذات النفوذ الكبير؛ تجنباً لحدوث خلل في موازين القوى، لخّص الدكتور توفيق الواعي مشكلة الحركة الإسلامية الصومالية في عدم استغلالها عنصرَي العلنية ونفوذ القبائل الكبيرة التي يمتاز بها الصومال، ما عجّل بفشل مشروعها؛ وذلك في كتابه “كبرى الحركات الإسلامية.. ردود وشبهات”، وما ينطبق على الحركة ينطبق -تماماً- على الحكومة، مع اختلاف الحجم وتفاوت الأدوار، تحجيم وتهميش القبائل الكبيرة لن يورثنا سوى التشرذم وفشل محتوم للنظام الفيدرالي.
4- الانفتاح على المجتمع بمختلف طبقاته الاجتماعية والسياسية، يذهب البعض إلى وصف بعض المتنفذين في السلطة بأنهم إقصائيون تحركهم دوافع أيديولوجية قاصرة، نرجو أن يغير هؤلاء نهجهم في التعامل مع الآخرين، فالصومال يسع الجميع، وعلى أكتافه يعيش الكل.
المصدر: هافينغتون بوست إنترناشونال