كنا نصيح بصوت عال نستمتع بصدى الجدران وهدير الحديد الصلب وأصوات الخفافيش المفزوعة من شدة صراخنا، ونتحدث عن حرب القبائل، والمليشيات المسلحة، والأساطير، والحكايات الشعبية مثلما يتحدث الإيطاليون عن كرة القدم وعن أقدام ذيل الحصان وعازف الهرمونيكا روبرتو باجيو الذي قال عنه مدربه يوماً “الملائكة تغني بين قدميه”. كنا نطلق ضحكات صبيانية حادة ونحن نناقش بحس طفولي كرة القدم والألفية الجديدة وقرب يوم القيامة، والمعلومة هذه بالذات سمعتها عن أحد الأساتذة في مركز الأيتام! كان يشرح بوجل وشيء من الحماسة عن نهاية العالم التي كانت مسألة تؤرق البشرية منذ فجر التاريخ، وظلت مصدرا خصبا للكتاب والأدباء والشعراء، وميدانا واسعا للسينما العالمية، وأرباب الفن ورواد الخيال، وعندما سألت الأستاذ المتحمس العلاقة بين القرن الجديد (٢١م) ونفخ الصور رمقني بعيون تتطاير منها الشرر فآثرت السلامة وابتلعت ريقي بصعوبة لشدة الموقف! كنت طالبا فضوليا يحب المرح ويعشق التحدي ويسأل كل شيء، وكنت أخشى من صفعة قوية تلجم لساني، وتبعثر أفكاري، وتؤلم جسدي، وتعيدني إلى رشدي حسب معايير المعلم، ولكن وخلافا للمألوف لم يفعل المعلم أيا منهم!
كان يتحدث عن نفخ الصور، وطيّ الأرض، وتشقق السماء، وتناثر النجوم، واضطراب الكون، وفيضان الأنهار، وهيجان المحيطات، وظهور معظم علامات الساعة الكبرى وخروج الدجال، أحسست برهبة حقيقية عن سرد الرجل وقصته المرعبة والمكثفة بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأدلة العقلية، وبعد هذه المحاضرة المخيفة عانيت من رهبة تسري في داخلي، وأشباح تهاجمني في عز الليل، ومخاوف تتسلل إلي في جنح الظلام، لم أنعم بنوم هادئ طيلة أسبوع، بل كان الدجال بعوره يلاحقني، والأرض تميد وتتشقق من تحت قدمي، وأهوال القيامة تطاردني في نومي وتمنعني من الابتسامة ومخالطة الأطفال واللعب معهم، حتى تمنيت أني لو كنت في كنف أمي بعيدا عن مركز الأيتام وقصص الأستاذ المستوحاة من الخيال والقصص الشعبية الصومالية وربما من الإسرائليات.
وبعد أن أعيانا التعب والحديث عن هواياتنا المكبوتة وفي طريقنا إلى كابوس ملجأ الأنصار لرعاية الأيتام كنا نطرح بمرارة “فظاظة المعلمين في مركزنا” كان بعض المعلمين أجلافا يضربون الأطفال بقسوة ويوبخون على نحو ينسف صفاء البال ويجرح براءة الطفولة، كنا أيتاما يواجهون مصيرهم ويقضون طفولتهم بين جدران مركز كان يعتبر في ذاك الزمن من أفضل الملاجئ من الناحية الحياتية، حيث كان يوفر لنا إلى جانب التعليم المجاني؛ المسكن والملبس والطعام والرعاية الصحية على حدود الخدمات الممكنة في كسمايو قبل ربع قرن وتلك نعمة لم يجدها الكثيرون من جيلنا ونحمد الله على ذلك، كانت لقمة العيش صعبة المنال في عموم الصومال، وكانت الأسر لا تجد قوت يومها والميسر من يجد وجبتين في بيته – الفطور والعشاء – غالبا، وإلى وقت قريب كانت الأسرة الكسماوية لا تعرف رفاهية وجبة الغذاء وإن تغيرت الأحوال وتبدلت المعيشة بعد الألفية الثالثة.
أما من الناحية النفسية فكان وكرا للألم واجهاض أحلام الطفولة، الضرب المبرح حتى تسيل دوماؤنا والعقاب المؤلم وعدم الاصغاء والاستخفاف بذوقنا والازدراء الذي كان يؤثر على عقولنا كانت قواعد متبعة بطريقة صارمة ولا تتغير أبداً في داخل المركز، مطالبنا كانت تواجه رفضا شرسا في كثير من الأحيان، ويبدوا أن الأساتذة أرادوا أن نعيش كالآلات نتحمل الضرب ونصبر على الكبت ونتنازل عن اللعب الطفولي وكأننا لسنا بشرا لهم مشاعرهم ونمط حياتهم وتصوراتهم وقصصهم الخاصة، إسكات صوت الطفل فينا كانت سمة بارزة في المركز، ذلك أن الكادر التعليمي في المركز من المعلمين والمربيين وحتى الطباخيين منهم كانوا يعانون اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD – Posttraumatic stress disorder) وكانوا يحتاجون إلى رعاية نفسية وصحية، لقد كانوا – غالبيتهم – من الحركات الجهادية (الاتحاد الإسلامي) وحاربوا ضد الغزاة منذ نعومة أظفارهم.
وعندما حمل أساتذة المركز السلاح ضد أعتى الدول كانوا شبابا في مقتبل عمرهم، وبعضهم كانوا أشبالا صغارا لا يملكون سوى أحلام الحرية وعقيدة دينية صلبة وعزيمة لا تهون، ورغم قلة الحيلة وتكالب الأعداء مرغوا أنف العدو على التراب، وانهزموا أيضا في كثير من المواقع وشاهدوا القتل والهوان، وعاشوا لحظات صعبة في حياتهم، ومعظمهم خرجوا من المعارك الشرسة بروح منكسرة وحدّة غير مبررة. في الحالات الطبيعية وفي الأوطان المتقدمة كان يطلق عليهم الناجون Survivals ومرضى نفسيين أو على الأقل محاربون منهكون ومنهارون نفسيا يحتاجون إلى رعاية صحية وجو هادئ خالي من الضغط والضجة، وفوق هذا لظلوا ولعقود طويلة مادة دسمة لصانعي الأفلام وهواة الخيال والكتّاب على السواء ناهيك أن تسند إليهم تربية أطفال ومراهقين وأيتام يمرون من أكثر المراحل الحياتية تأثيرا وأهمها على الإطلاق.
في مركز الأيتام ” كنت متقد الذهن سريع الحفظ لعوبا يحسن سرد القصص وقتل الألم بمزيد من الحكايات والضحكات في حياة تتسم بدراما اليتم، وكنت متميزا في الدراسة ومن الأوائل دوما وإن كان هذا التميز اختفى نوعا ما في الثانوية العامة، وكليا في الجامعة ..