كنت أسهر مع الكتاب الصوماليين الذي اختاروا اللغة الصومالية في انتاجهم الأدبي وثمرتهم الفكرية، بعضهم كتب عن حقبة الديكتاتورية، وقصص الحروب ومعاناتها، وشبح المنافي وصعوبة الاندماج في المجتمعات الغربية. ومعظمهم جعلوا ماضي الصومال وثقافتها مادة دسمة وأساس إبداعاتهم، ومنها انطلقوا نحو فضاء الكتابة والبحث عن الحلول الممكنة فدرسوا المجتمع وتعمقوا في الأدب وسبروا غور العواطف. لقد بذلوا جهدا مضاعفا في بيئة طاردة ولا تساعد الكتاب والباحثين وأرباب الأقلام، وتمايزوا عن الجموع الغفيرة التي أرادت تغيير الواقع بالأماني والحكايات والأحلام وربما النقاش الساخن في المقاهي ومفارش القات دون أن يحركوا ساكنا أو يقدموا رؤية. ومن أبرزهم سعيد صالح الخبير في اللغة وتاريخ الصومال، وأستاذ عبد الله منصور الرائد في الدراسات الصومالية وعلاقة لغتهم باللغات العالمية والإقليمية، ومحمد طاهر أفرح صاحب أشهر رواية باللغة الصومالية «مانا فاي» التي تعتبر أساسا للرواية المكتوبة باللغة الصومالية.
والدكتور أفرح الذي كتب عن الأدب والمسرح والتاريخ والثقافة والنقد الأدبي كان في بداية مسيرته يكتب باللغة العربية. ومن المثير والجدير بالذكر أنه كان يصدر جريدة تحمل اسم «صوت جوبا» من مدينة كسمايو في أوائل السبعينيات من القرن المنصرم، وبعد كتابة اللغة الصومالية وما رافقها من الهالة الإعلامية والترويج المصاحب لها ترك لغة الضاد التي كان بارعاً ومتميزا في كتابتها إلى اللغة الصومالية التي حملت أهم كتاب في مسيرته الكتابية (Maana-faay). وبعد الحروب الأهلية هاجر إلى بريطانيا فبدأ الكتابة باللغة الإنجليزية، ولا بد أن هذا التنقل والحيرة بين اللغات أثّرت على الكاتب الذي لم يستطع تجاوز روايته الأولى حتى بعد مرور قرابة نصف قرن من صدورها (١٩٧٩م).
وعندما التقينا في كسمايو أعطاني نصائح ما زلت أحفظها عندما قال لي ونحن في قصر الضيافة المطل على المحيط الهندي “كن مخلصا للكتابة ولا تجعلها هواية ثانوية تعيش في هامش حياتك”. وعلى خلاف الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي صاحب «سرايا الغول» «لكع بن لكع» الذي كان يعتقد أنه من الممكن والمفيد “حمل بطيختين في يد واحدة” : الانشغال بالسياسية والانشغال بالأدب، كان أفرح يرى أن السياسية تغتال الأدب وتشتت التركيز. قال بصوته المبحوح الذي نادراً ما يعلو ونظرته المتأنية: “ابتعد عن السياسة مهما استطعت فهي الخصم الأول للإبداع والتألق الكتابي، واختر لغتك في الكتابة قبل فوات الأوان فالتشتت والضياع يقللان الإبداع ويغتالان التفكير ويشتتان التركيز” فقلت لا أعرف كيف يستطيع صومالي الابتعاد عن السياسة خاصة وأنها المجال الوحيد الذي يوفر حياة كريمة ومستقبل أفضل، كما هي ميدان مفتوح لتطبيق الأفكار التي تختمر العقول وما يجيش في الصدور من الأحلام والرؤي والطموحات، أما اختيار اللغة فاخترت قبل سنوات وستكون اللغة العربية لغتي في الكتابة وسائر المعرفة. أتساءل وأنا أقرأ كتبه باللغة العربية، ومعظمها كانت في السبعينيات والثمانينات من القرن الماضي وقبل أن يعتمد اللغة الصومالية المكتوبة بالحرف اللاتيني، كيف استطاع أن يغوص في أعماق اللغة العربية ويكتب بهذا الجمال والسلاسة والإبداع، ثم يتركها إلى الأبد وينحاز بالكامل إلى اللغة الصومالية التي أبدع فيها أيضا؟ كتب ومقالات الدكتور المكتوبة باللغة العربية رغم أنها بعيدة عن الأضواء إلا أنها تعج بالجمال والدهشة الأدبية وتعالج بمواضيع ثقافية واجتماعية وسياسية وفنية.
طبقت وصية الدكتور على حذافيرها ذلك أني لم أكن يوما مخلصا للكتابة