يختلف طعم كل شيء في السياسة، لا بالذوق والكياسة، ولا بالمعرفة والفراسة، إنما بمنطق التعاسة، تماما كما في سوق النخاسة، الرواج فيه للعبد القوي ذي الحماسة، والترجيح بين الأنداد بالقبح والدناسة، والميزة اللؤم والخساسة، والترقية بالدِربة والممارسة، لا بالدرية والدراسة. وكل شيء في السياسة تعيس، إلا كرسي الرئيس، وهو ضيق خَسِيس، والسباق فيه محتدم ضروس، بين متسابقين كلٌ منهم شريس، أما الفائز به ومَن عليه جليس، فاللعن والسب له أنيس، متَّهم في الحسنى والحسيس، وكاسد في الطلب والعرض بئيس.
مذاق شتى الفواكه مُرّ في نظر المعارض المغالي، وحلو في نظر المحافظ الموالي، وكلاهما في الخصومة لا يبالي، لا يهمه مشاعر غيره في الأسافل والعوالي، إذ عليه تسديد الفواتير الغوالي، وتحصيل السعادة والمعالي، وحديثه مع نفسه: بفخامتي وجلالي. لُقمة للتسلية تفتح الشهية لوجبة صغيرة، تتبعها وجبات ضخمة توسع المريء لدرجة “لا يغادر صغيرة ولا كبيرة”، لا يعفو عن سيئة ولا عن جريرة، وهكذا السعي بين مدارج السياسة الكثيرة، كل درجة ذات نَهَمٍ حقيرة، لا تميز بين طعمة حلوة وأخرى مريرة، فهي “نعم المرضعة وبئس الفاطمة” كما في العبارة الشهيرة.
كلام المعارضة في حق السلطة عسل، فإن صاروا هم في السلطة فبصل، مخدّر كل من في السياسة دخل، عديم الإحساس يستوي في حقه الصواب والخطل، لا قرار لرأيه في القول والعمل، كالظل يزول وكالنجم أفَل.اليوم المعارضة تلعن السطة، وغدا المعارضة في السلطة، فيأخذ غيرها هذا الدور فيلعنها وهي على السلطة، على غرار: “كلما دخلت أمة لعنت أختها”، والمعارضة أخت السلطة، والشعب الحَكَمُ يعدل في اللعن بين المعارضة والسلطة،ولسان حاله يقول: (لكل ضعف ولكن لا تعلمون) إذ الأخرى المعارضة والأولى السلطة.
شعر السلطة معقد قُلٌّ، وشعر المعارضة منمق جَزْل، كشاعر النيل والأمير شوقي مِثلٌ عِدْل، ومطر السلطة رذاذ طلٌّ، ومطر المعارضة سيِّبٌ وَبْل، وصباح السلطة سيئ الفَأْل، وللمعارضة صباح الورد والفلّ، حتى إن عزْف أوتار القيثار وخشبة المسرح للسلطة خَتْل، أما لغيرها فطيِّعٌ سَهْل. بمقارنة بسيطة بين مستوى خطاب الشخص وهو في السلطة، مع خطابه الأول وهو في المعارضة، يظهر بون شاسع بين مستويات الخطاب بين الجانبين الشلطة والمعارضة، والسبب أن السلطة مشغولة بأداء مهامها بصفتها المسئولة عن الجميع بما فيهم المعارضة، والمعارضة مشغولة بكشف مثالب السلطة وثغراتها لكونها ناصحة كالمرآة الناصعة للشعب عن طريق المعارضة. فلو تلاقحت قوة صانع القرار، مع حيوية المعارض المغوار، واجتمعت خطط الدولة للبناء والاستقرار، مع نصيحة الاتجاه المعاكس باستمرار، وتواردت خواطر الأفكار، بين الحكومات ومناوئيها الأحرار، لَساد الخير والازدهار، ولَانتشرت النعمة في الديار، ولَازدانت الشوارع بالأنوار، واستتب الأمان في الليل والنهار، ولَحصل العدل بين المتقين والفجار، لكن “كل مُيسَّر لما خُلق” ويختار، وليس له عن ذلك مهرب وفرار، وإن حاول جاهدا ولفَّ ودار.
والجماهير تحكمها العواطف، وتقودها في النهاية إلى العواصف، ليس في قاموسها تقدير المواقف، فأياديها للأمجاد خواطف، ومعظمها عن الثورات خوالف، وإلى الخلاف والنزاع سوالف، وهي وقود النزاعات بين الطوائف، وهي البقية في الإثْر وهي الخلائف، لا تغيّرها رياح الدهر الصوارف، ولا يُغريها المُوافق ولا يَضِيرها المُخالف.
ويجب أن يعلم الجميع هذه الحقيقة المُرة، أن السلطة مسئولة عن مصالح العباد والبلاد بالمَرة، بقطع النظر عن صوابها وخطئها وهي حرة، وفي يدها القرطاس والمحْبرة، والمحاسبة حق مكفول بالدساتيرِ والقوانينُ به مسطَّرة، لا مجال لإطلاق اللسان أو إرسال العَبْرة، والوعد دَين في ذمة النفس الحرة، أما غيرها فليس لها في ثروة الحياء مثقال ذرة.