كانت تلك الأيام تستفزني أسئلة روتينية، تشبه سيلا من الأشباح التي احسبها بسبب تيه الطموحات التي كنت أتطلع إليها من خلال زجاجة نافدة مشبوهة من غطرسة الواقع الذي كنت أعتبره أنه لم ينصف لي يوما ما، لم أكن أمتلك وقتئذ، فصاحة بعض أترابي في العمر، لأداعب تلك الأسئلة التي تجوش في أحشائي ببعض ما أعلل به نفسي من تكهنات في المستقبل، ولا من أفضفض له أحاسيسي الداخلية غير زميل واحد، رغم أن بعض تلك الأسئلة كانت عصيّة عليّ وبشدة، لا أجزم أني كنت مختلفا عن بعض من كان في طبقتي من أصدقائي في الدراسة، لكن كان بيننا مسافات من الهدوء، أو قل اللامبالات في ممارسة حياتهم بشكل طبيعي، بل البعض منهم كان ينظر إليّ شزرا، من أجل فضولي وثرثرتي في تنبآتي لمستقبل لم أعشه يوما ما من حياتي،
تلك الأسئلة التي تستفزني، كانت ثلاثية الأبعاد، البعض منها كان في السلك التعليمي،
وكيف أستمر في كسر جماح هذه الوساوس التي تدغدغ آمالي وتَسْبُر تجلدي في تخطئة هذه المرحلة التي كانت من أشد المراحل عليّ من حيث التوطئة لمرحلة ما بعد الثانوية التي تخرجت منها بحماس يكاد يحرر تلك التناقضات من هذا التفكير الذي سيطر على خاطري، كان جلّ تفكيري في أي كلية أختار لهوايتي وفي أي جامعة؟ ومع من؟ وتحت من؟ وفي أي بلد؟
مع مرور الأيام وتجدد صيغات هذه الأسئلة لاستنهاض ما تبقى من حماسي في النفس، تكهنت أن هذه التساؤلات لم تجد موطئ قدم في حياتي، حيث كان في داخلي شيئ ما أشبه إلى الصراع -من أجل البقاء- في الحياة البرية المتوحشة، وبدأ ذالك التفكير في هذه المرحلة يواجه منافسا مجهول الهوية، يفرض رؤيةً ما تقول: إن هذا التوقيت لم يعد مناسبا للجلوس على طاولات الفصول، من أجل تثبيت مفقود وتغييب موجود، وهذا الخيار بأمس الحاجة إلى تجديد أكثر من مناهج بعض الجامعات التي ترغب ارتيادها في هذا التوقيت بالأخص، وهنا انتهي شبح هذا الحلم الذي لم يكن يوما مجرد حلم عابر، بل حلم شاب طامح داس عتوّ الدهر بمناسم من التجاهل والتغافل، وبدأت تلك النشوة تخبو شيئا فشيئا، وانطوى من الخلف هذا الحلم أيضا، وظلت نفسي تهفو إلى أن تنخلع من ربقة هذه التفكيرات التي تكوي نفسي وتُذبل روض أخيلتي بالخيار الثالث، وهو السفر إلى جنوب إفريقيا (جهة) وليس البلد المعروف بهذا الإسم بالذات،
في تلك الأيام كان كل ما أحاول الوصول إليه أن أقنع نفسي أن ثمة فراغات يجب تسديدها وملئ خاناتها، ولو برقصة مذبوح في تفكيراتي هذه، وعزمت الإنطلاق في تجربة هي الأولى من نوعها، في مثل هذا السفر بهذه المسافة، رغم ما ينتابني من قلق مربك من نتائج هذا السفر المستقبلية، لكن كان هناك سؤال ظل أكثر ما يشجعني لخوض هذه التجربة بهذه المغامرة، سؤال كان يهمس في أذني: إلى متى تستسلم للمهابة في كل شيء حتى في التجارب الفيصلية في حياتك؟
ومن أجل أن أجد جوابا شافيا لهذا السؤال الذي لا يقل حدة عن سابقيه، صاحبت الطريق بمفردي عفواً مع أحد أصدقائي الذي فضّل أن يرافقني من الحدود الكينية إلى عروشا التنزانية، المدينة التي ضربت أشواطا من الجمال -كأقضى توديع-، وبتنا ليلتين في أحد فنادقها، وهي تُقْرِي نفوسنا بمداعبة طقسها القارس لكي يسمر معنا البرد حتى في الغرف التي كنا نسكنها، وفي يومي الثالث الذي كان من المفترض أن أواصل أشد مراحل المغامرة وبمفردي في هذه المرة، انطلق الباص كالرصاصة وبشكل لم يكن بحسباني وبدون علم مسبق بذالك، وهنا لا في الأفق مقدمات النكسة لهذه التجربة أو المجازفة، إضافة إلى أصوات بعض معارفي الذين كانو يناشدونني أن لا أتمادى في مواصلة هذا التخبط من السفر في بلد كتنزانيا لمفردي، والبعض يعرف سلوكياتها المثيرة في التعامل مع العنصر الصومالي، رجعت وكأنّ شؤمي ما زال يطاردني “وكل الخير فيما قدّره الله”، استنجدتُ وقتئذ فضول القوافي وأنا اعتبر كل ما حدث بسبب أني سيئ الحظ أو مشؤوم فحسب، فكتبت قصيدة أصف فيها نفسي وأنا غارق في متاهات الخفق، قلت فيها بعد بيت التصريع:
وسـرتُ وكان شؤمي من ورائي
يـثـيـر الـنـقـع مـثـل شَــرَار نــار
تـعـامـيتُ الـمـهابة فــي تـمـادي
عـلـى أن لا أحـاذر مـن: حـذاري
وفي خلالها أواسي نفسي قائلا:
وهــل ذنـبي سـوى أنّـي طـموحٌ
تـــعــذّر حــلـمـه دون انــتـصـار
أريــد الـنّفس تَـذهب كـل حـين
وتَـحصد مـن مـخاوفها ظِـفاري
أما هذه المقطوعة في نفس القصيدة فلم يتسنّ لي سوى أن أرسل برقية شكوى من الدنيا التي تستضيف السفلة من الناس في القصور وتتبرع لذوي الهمم بالحرمان،
هـــي الـدنـيـا تُـصَـفّد كــل حــرّ
وتــخــتــار الأخـــســة لــلــقـرار
فــلا مـثـلـي يـنـال مُـنـاه مـنـها
ولا زالـت تُـجِـدّ عـلى احـتكاري
لأهـــل الأمـنـيـات بــهـا نـفـوس
حـرمنَ مـن الوصول إلى ازدهار
أما هذه الأبيات فقد وصفت فيها أني طموح لكن كأنّ كل شيء ضدي إذ أن مجرد الطموح ليس كافيا للوصول إلى نقطة النجاح، قلت فيها:
طـمـوحٌ، لـيـس يـنقذني الـتأني
ولا الإسراع يضمن لي انتصاري
طـمـوحٌ، لا تـطـاوعني الأمـانـي
كـــأنّ هــزائـم الـدنـيـا ابـتـكاري
طــمـوحٌ، والـقـيـود لــهـا قـــرار
ولــي أمــل بـهـا، وهـنا الـتّماري
بعد كل هذه المجازفة والتغني بالقوافي في محراب اليأس إثرها، مكثت هناك في كينيا بعد أن طاوعت طلبات القدر القاهر، ولم تمكث نفسي تكف عن همساتها التي ثتير نوعا من الدوخات في هذه المرة بالذات، وبعد شهر رمضان المبارك في عام 2019م سولت لي نفسي أن أعيد الكرة إلى المرمى من جديد، لم يكن كل هذا التمادي والعناد يقبل أن افترش استسلامي وأُبرك نفسي على عتبات اليأس، بل كنت في ذروة النشوة إلى مزاولة المغامرة إلى آخر النتيجة حتى ولو كانت سلبية بحتة، رددتُ على آثاري مرة ثانية برفقة اثنين ممن تزاملنا في الطريق، ونجحت التجربة هذه المرة وكانت دسمة بالتجارب الأخرى في نفس الوقت، انتهى بنا المطاف إلى آخر نقطة من تنزانيا جنوبا في مدينة “تُنْطُوْمو”، التي تفصل بين تنزانيا وزامبيا، وتلقينا هناك بعضا من أهم حماقات الدول الإفريقية التي ابتُليت بفساد الحكومات، وعقول تركض خلف سراب السحت من المال بهيبة الزي العسكري، وتحت رحمة البندقية، وتنزانيا رغم طيبة شعبها وحبهم للمظاهر الإسلامية، ظلت أفضل نموذج لهذا النوع من ذالك النظام السمج.
كواحد من العنصر الذي أنتمي إليه من أبناء هذه القارة التعيسة، تلقيت منها سلوكيات من يتحكم فيه البلعوم إلى الجهاز الهضمي، وتعامل من لا ينتسب إلى الإباءة والأنفة، تلك السلوكيات كانت غريبة بالنسبة لي لكنها كانت العرف السائد الجاري على كل من يسوقه القدر إليها، أقمت في تلك المدينة خمسة أيام أبحث عن معدوم، وأنتظر غير قادم، كرهتُ فيها نفسي، وَكَرِهَتْ نفسي جسدي، في تلك الأيام استقرضت القريض لأتنفس ما بداخلي كالعادة فكتبت أبياتا أهجو بها تنزانيا قائلا:
عـش ضـائعا فـي تـربها قـلقا
بـتـسلط الـصعلوك والـحمقىٰ
هــي تـربة لـيست لـها نـسب
لــغـنـى ولا لـشـهـامـة حــقّــا
طـمعا بـما فـي الجيب همهمُ
يـتـعـاقبون عـلـيـك إذ تَـلـقىٰ
هـي بـؤرة لـلصيد -وا عجبي-
والجـرم أنّـك فـيـهـم تـبـقـى
هــي لـلـئام حـظـيرة كـحمىً
والـطـيبون بـهـا كـما الـغرقىٰ
الــلــص والـشـرطـي بـيـنـهما
صـلـة كـمثل الـعروة الـوثقىٰ
يتقاسمون السحت من جشعٍ
مـردٍ بـهم، سـحقا لهم سـحـقا
بــيـن الـقـرود وبـيـنهم شـبـهٌ
لا تــسـألـنّـي أيّـــهــم أنــقــى
أرض الـخساسة لم أجد مثلاً
لـــهــمُ ولا لـفـعـالـهم سِــبْـقـا
هـم كـالعبيد وعـبدهم سـمج
يــــزداد فــــي أفـعـالـه رقّـــا
تالله هــــذي تــربــة مــلـكـتْ
حـشـراتُـها بـرئـاسة الأشـقـىٰ
هذه الكلمات كتبتها ثم طويت الورقة من الرأس ولكن ليس كطي السجلّ للكتب، كأنّ ثقلا ما كانت نفسي أسيرةً له، طويتُ من صدري وخاطري بهذه الأبيات، لم أكن أكترث لما قد تجلبه لي، سواء هل يسرّ أم يسيء؟ وبما أنّ هذه المدينة كانت مَعْبَراً مركزيا للسيارة (مبالغة لجمع سائر) إلى دولة زامبيا كانت المناظر شتى وبعضها كانت قاسية جدا، وما يتلقاه الإنسان الصومالي هو الدافع الأكبر لكتابتة هذه القصيدة أكثر من كونها مشاعر شخصية فردية.
غادرت تلك المديتة وأنا ألعنها عن بكرة أبيها مغادرة المتنبي لمصر في عهد الملك الأخشيدي ولسان حالي كلسان بيته في داليته الشهيرة:
أما الأحبة فالبيداء دونهم
فليت دونك بيدا دونها بيد
لكنني لم أكن على متن تلك الوجناء الجرداء التي كانت تجوب به الفيافي والصحراء في طموحاته حسب روايته، وهنا نقطة ضعفي إلا أنّ الهمم نفسها من الجِياد التي لا يجيد ركوبها الهيّابون، بعد يومين آخرين أستطيع أن أقول كانا مثل ثقبة الرحى لسفري هذا، عانقت تربة زامبيا على متن حافلة كنت الصومالي الوحيد الذي يجلس فيه وسط هيبة الدجى وزحمة الركاب الذين يتمايلون طربا للموسيقى الشعبية المحلية التي كانت تصيبني بالصداع لدرجة أحتاج إلى معرفة نفسي من جديد، كنت لا أجد طاقة لحمل ملابسي التي ألتف بها من شدة البرودة، لما نالني من وعثاء السفر التي طالما أستعذتُ بالله منها في أسفاري، لكنه السفر وصدق سيدي المصطفى حين قال: السفر قطعة من العذاب!!
زامبيا هذا البلد الإفريقي الناشئ يحمل بصمات كل بلد إفريقي إلا أن ايدولوجيات الأنظمة الذي كانت تحكمه لغاية الآن (حسب رواية الساكنين منذ التسعينيات تقربيا) جعله يعيش في عهود تخطاه بعض دول القارة السمراء من حيث العمارة والإنفتاح للعالم والخدمات، حيث يعيش شعبه (الزامبيون) تحت تقديس النظام الحاكم مقابلة الفقر المدقع، تلك ملامحه كأي بلد إفريقي، ومن المتعود أن تصادف أفواجا من شعبه تركض رجالا ونساء جنب الشوارع بعد الفجر عندما ينسل الغلس من تباشير الصبح، تحسبهم يمارسون الرياضة الجسمية في فصل الشتاء الذي يسكن البرد من الناس في العظام لمجرد طِلاب قوت اليوم، وعند الإياب قبيل المغرب نفس المنظر، وعند التسوق تجد عجوزا مسنة تفترش الأرض جنب الشارع في قلب المدينة وهي تبيع الخضروات والفواكه وتصمد أمام ظروف الحياة القاهرة بابتسامة خفيفة ترسمها لك على طلعتها بعفوية وتقول لك (muli shaani) باللغة البيمبية (bemba) المحلية والتي تعني كيف حالك؟ شعب حيوي مثابر لا يدع للاستسلام خيارا رغم ما يحيطه من تحديات المعيشة وظروف الحياة التي لا تشفق للضعفاء، والإحتشام جزء من ثقافتهم ومما لفت انتباهي من عاداتهم أن المرأة تقف على ركبتيها أو تجلس عندما تريد مخاطبة من هو جالس أيا كان بشرته وديانته، وعند الاستفسار كان الرد: كي لا يرتفع هامة المخاطِبْ على المخاطَبْ!!
زامبيا بلد مسيحي يعتنق الغالبية من مواطنيه المسيحية حيث يشكل المسلمون فيه 5% تقربيا والأغلب منهم من الهنود والصوماليين والملاوييين ونسبة قليلة من الزامبيين أنفسهم، وكان الزامبيون يفتخرون أن زامبيا هو البلد الإفريقي الوحيد الذي يدين شعبه بالمسيحية %100 لكن هذا التحدى ما زال يواجه منافسا يكاد يكسر شوكة ذاك التحدى ولاسيما عندما تَصدر الهنود والصوماليون في مجال التجارة في السنوات الأخيرة إضافة إلى الصينيين الذي يشكّلون القوى الثالثة لهم في المجال نفسه إلا أن الأكثرية منهم غير مسلمين.
ختاما هذا العام كان لي عاما حافلا بالدورس، اكتسبت فيه الكثير من التجارب، وأحسست عبأً من المسؤوليات، تعرفت على كثير من أصدقاء شوهت مطالعهم الغربة، وطَلَتْ على أصالتهم التغريب من كل جهة، وبهم تعلمت على تفاصيل أصدقائي القدامي من جديد، الكثير من هؤولاء الذين تعرفت عليهم هامشيون في حياتي كالبناء في النحو لا يتأثر ولا يؤثر، والبعض الآخر حشو تسلل إلى معنى “الصديق” دون أن يراجع قواميس الصداقة، والبعض الآخر ظل مثل الشحم الفاسد في اللحم الطازج يؤثر سلبا كلما مكث زمنا في سويداء القلب، والبعض القليل أصدقاء نُجُبٌ تتحقق فيهم معاني الصداقة ومعنويات الصديق، والدهر بهم شحيح.