أنهى محمودٌ دراستَه الجامعيةَ بتفوّق، ثم ما لبث أن راودتْه فكرةٌ جنونية! ……فكرةُ السفر إلى الخارج لمواصلة الدراسات العليا هناك، يريد خوضَ هذه المغامرة بأي ثمن، يَشغل بالَه بها كثيرا، إنجازُه العلميُ متوقّفٌ على ذلك حسب ظنه وإبداعُه معلّقٌ عليها كما يزعم لا يرى رغبةً في البقاء هنا، (البلد) بل قد يلعن القدَر الذي كتب عليه ذلك والعياذ بالله بدأ محمود ينعزل عن بقية أسرته، يَشرد كثيرا، يتيه في بحر أفكاره،، يغوص في عمق خواطره، يستسلم لهواجسه طوعاً أو كرهاً، ينكبّ على الإنترنت يقضي جلّ وقته فيه، يشاهد صور أصدقائه المنشورة على صفحاتهم الشخصية، يزور بروفلاتهم باستمرار، يُمطر عليهم التعليقات الساخرةَ، يرسل إليهم القلوبَ الحمراءَ تباعاً، يحادثهم، يعيش أجواءهم، تلك هوايته المفضلة التي يُسلّي نفسَه بها.
يُطفئ ضوءَ غرفته مبكّراً، لكنه لا ينام إلا متأخرا، ولا يستيقظ إلا كذلك، يصرخ على وجه إخوانه الصغار، يضربهم بدون سبب أحيانا، يرد طلباتهم البسيطةَ بشدة، تستفزّه أدنى حركة منهم، ضحكاتُهم البريئةُ تثير غضبه بسرعة، تصرفاتُهم العفويةُ هي الأخرى تزعجه، باحةُ غرفته محميةُ أسودٍ ضاريةٍ ممنوعٌ الاقتراب منها، سعدية هي الوحيدة التي تقدّم له الطعامَ بعدما تطرق باب غرفته بلطف، وهي وحدُها مَن تخترق قلبَه وتمازحه كي تبدّد أجواءَ الحزن عليه، وتقلّلَ مِن توتّره الاضطراري، وهي سفيرة الخير التي يصطفّ وراءَها كل من يريد الوصول إلى محمود.
حالةُ محمود تتدهور وظروفه الصحيةُ تسوء يوما بعد يوم، شهيتُه للطعام قد توقّفت تماما، إقباله الشديدُ على الحبوب المهدئة وإدمانُه عليها ينذر بكاثرةٍ صحيةٍ لو لم يتم التدارك عليها في الحال، إنه وجد هذه الطريقة وسيلةً مناسبةً يعبّر بها رغبتَه الجامحةَ في السفر إلى الخارج، لا يعلم محمود عن أوضاع أسرته المالية ولا الظروفَ المحيطةَ بها، أو يعلم بها لكنه يتغافل أو تغلبه شهوة المغامرة التي يريد خوض تجربتها.
والدته مشغولةٌ بتأمين لقمة عيشه، فهي تخرج مع انبثاق الفجر وتسلك الظلماءَ في تلك الساعة الحرجة، تزفّها صياحُ الدِيَكة، وترانيمُ الأئمة في محاريب المساجد، وقبل مغادرتها توصي ابنتها مريمَ بترتيبِ البيت وتدبيرِ شؤونه، وتجهيزِ الفطور لأبيها المريض، وتوصيلِ إخوانها إلى المدرسة، وتنظيفِ ساحة البيت، تتركهم برعاية الله وحفظه ثم تمضي، وفي طريقها تسترسل في أفكارها، تقلّب المواضيعَ يمنةً ويسرةً لتجد حلا جذريا لابنها محمود، تريد أن تحقّق له حلمَه وأنّى لها ذلك، تصل إلى السوق فتفرش تلك السُفرة البيضاء التي تضع عليها يوميا حبات الموز والمانجو، وحُزما مختلفة من ليمون حامض وغيره، تستقبل المشترين برحابة صدرها، وتبيع لهم ما تيسر من بضاعتها المزجاة، تقضي يومها كله هناك تتناوب عليها لسعاتُ شمس الظهيرة وبيدها مِظلة صغيرة تقي بها حرّ الشمس.
ذات مساء عادت أم محمود إلى البيت كعادتها ورأت ابنها محمود شاحبَ الوجه، غائرَ العينين، مستلقاً على ظهره، مشبّكا بين أصابعه، دنت منه ومسحت على وجهه بيدها، وقالت:
_ كيف حالك يا بُني؟
_ الحمد لله أمي بخير، أنتِ كيف حالكِ؟
اليوم عدتِ بسرعة أمي.
_ نعم يا بُني، عدتُ بسرعة لأجلك.
_ أنا بخير!!!! كانت وعكة صحية خفيفة، فلما تناولت المهدئَ ذهبت، والآن سأخرج؛ لأن صديقي يوسف بانتظاري عند الباب، ألم تقع عينك عليه أثناء دخولك؟
_ الله يشفيك يا ولدي، لا تتأخر كثيرا في الخارج.
_ حاضر يا أمي.
_ معك فلوس تشرب به شاهي؟
_ نعم نعم أمي معي.
_ خذ هذا.
_ لا لا لا، والله معي يا أمي.
_ أقول لك: خذه، عادي يا بني.
خرج محمود، ولم يكن ثَمَّ صديق ينتظره، بل كان يتهرب من أمه فقط كي لا تحاول إقناعه بالبقاء بجانبها، وتواجهه بحقيقة أسرته المالية، وظروفها الاقتصادية السيئة، مشى خطوات واجتاز الشارع المقابل لبيته، ثم انثنى قليلا إلى يمنيه حيث المقهى الشعبي المشهور، دخله فرآه مكتظا بالناس مليئا بالداخلين إليه والخارجين منه، بحث عن مقعد يرتمى فيه، فوجده هناك في زاوية المقهى فهرول إليه كي لا يسبقه إليه أحد، جلس عليه، فجاءه النادلُ فأخذ الطلب ثم ولّى.
نهضت أمه من مجلسها ذلك، ونادت ابنتها سعدية:
_ اطرحي لنا حصيرا في بلكونة البيت، وجهزي شاهي حاليا، احذري من أن تزيدي السكّر عليه، أبوك مريض تعلمين ذلك جيدا.
_ حاضر يا أمي، الآن الآن.
جهزت سعدية كل شيء في ثوان، وأبلغت أمها بذلك، وهنا سينعقد بعد قليل مؤتمر يشارك فيه الأبوان، يناقشان فيه قضية محمود الشائكة، وسيحاولان وضع حل جذري لها، فبمَ ستؤول إليه الأمور؟ وهل ستتم الموافقة على طلب محمود أم لا؟ وإلى أين سيتجه؟ من زفّ له البشارة؟.
يتبع …