الصومال بين حلم السيادة وواقع الانقسام (بين وصاية تركيا وقطر)
مرّت أكثر من ثلاثين سنة على انهيار الدولة المركزية في الصومال! ثلاثون عامًا من الدماء والدموع، من الأحلام المهدورة، من المدن المدمرة، والقرى المهجورة، ومن وطنٍ كان يومًا ما يحمل الأمل فصار عنوانًا للنكبات والمآسي.
في يومٍ لا أحب أن أتذكره، فقدنا أمام أعيننا أحد عشر فردًا من أهلنا بسبب المرض والجوع، بينهم ثلاثة أفراد من أسرة واحدة رحلوا في يوم واحد! وما جرى في شامو وزوبي، حيث قضى أكثر من سبعمائة صومالي في يوم واحد يُعد شاهدًا حيًا على حجم المأساة والمعاناة التي مر بها شعبنا.
ثلاثة عقود من التيه، تفككت فيها بنية الوطن السياسية والاجتماعية والأخلاقية، وتقطعت أوصال الشعب الواحد إلى كانتونات متصارعة، وميليشيات متناحرة، وقبائل متنافرة حتى أصبح الصومال جسدًا ميتًا تنهشه قوى الداخل والخارج دون رحمة.
شهدنا خلال هذه السنوات العجاف موجات هجرة مريرة ومأساوية، نزح خلالها ملايين من أبناء الوطن عن أرضهم، فرارًا من الجوع والخوف، بحثًا عن أمنٍ مفقود وكرامة مهدورة، فلم يجدوا في المنافي إلا ذل الغربة وصقيع الاغتراب.
هؤلاء الذين كانوا يُفترض أن يكونوا عماد المستقبل صاروا ضحية حاضرٍ بائس وسياسات فاشلة.
أبناء الصومال الموزعون اليوم في الشتات هم المرآة الحزينة لعجز الداخل وفشل النخبة.
ورغم كل هذه الأوجاع كنت – مع كل إعلان عن تشكيل حكومة جديدة – أتمسك ببصيص أمل وأقول لنفسي لعلها تكون البداية المنتظرة! لكن سرعان ما كان هذا الأمل يتهاوى تحت ركام الصراعات والمصالح الضيقة، ويعود المشهد إلى سيرته الأولى(انعدام الأمن، غياب التنمية، تفشي الفساد، وتآكل ما تبقى من مؤسسات الدولة)
اليوم وبعد سنوات طويلة من الانتظار والخذلان أجدني أصل – كما كثيرون من أبناء وطني – إلى قناعة مرة لا مجاملة فيها، حيث نعيش على فتات وهمٍ اسمه السيادة الوطنية.
نرفع شعارات كبرى بلا مضمون حقيقي، ونلوّح بعلمٍ لا يحمي جائعًا، ولا يداوي جريحًا، ولا يردع معتديًا.
فأي معنى لدولة تُدعى الصومال وشعبها مشرد بين مخيمات اللجوء ومقابر الغرباء؟
وأي قيمة لسيادة لا تحفظ أمن الشوارع ولا تؤمّن مستشفيات ولا توفر تعليمًا ولا تنشئ أجيالًا؟
وأي استقلال هذا الذي نفاخر به وقد صار وطننا مرتعًا للميليشيات وساحةً مفتوحةً للصراعات الإقليمية والدولية؟
وسط هذا الخراب المؤلم تبرز فكرة جريئة قد تبدو للبعض صادمة، لكنها في ظل الانسداد الراهن تستحق وقفة تأمل ونقاش جاد!
لماذا لا نطلب من دولة صديقة – مثل تركيا أو قطر – أن تتولى إدارة الصومال مؤقتًا وفق عقد شفاف ومحترم يحفظ الحقوق ويضمن عدم الاستغلال؟
ليست دعوة لاستعمار جديد بل صيغة شراكة انتقالية تقوم على إنقاذ ما يمكن إنقاذه:
• تأمين الأمن الداخلي.
• بناء مؤسسات الدولة من قضاء وتعليم وصحة.
• تطوير البنية التحتية.
• استنهاض الاقتصاد الوطني.
• إحياء ثقافة المواطنة والانتماء مقابل نسبة عادلة وعلنية من استثمار الثروات الوطنية تحت رقابة داخلية وخارجية صارمة!
نعم قد نضطر مؤقتًا للتنازل عن بعض مظاهر السيادة الشكلية لكن في المقابل سنستعيد أعز ما افتقدناه! الأمان والكرامة والعلم والأمل.
التاريخ يعلمنا أن الأمم العظيمة لم تنهض بين يوم وليلة بل مرت في كثير من الأحيان بفترات وصاية أو حماية مؤقتة أعادت بناء أسسها.
ألم تخضع اليابان لإدارة أمريكية بعد الحرب العالمية الثانية قبل أن تصبح اليوم من أكبر اقتصاديات العالم؟
ألم تخضع ألمانيا نفسها للاحتلال قبل أن تنهض وتتحول إلى قوة اقتصادية وسياسية عالمية؟
حتى في تاريخنا الوطني مع كل المآسي التي رافقت الحماية البريطانية والإيطالية، كان هناك قدرٌ من الاستقرار والنظام لا نستطيع إنكاره إذا قارناه بما نحن فيه اليوم من فوضى وانهيار.
بل إنني أقولها بمرارة أشد إذا كنا عاجزين عن إدارة أنفسنا بأنفسنا، فلماذا نصر على البقاء أسرى للفقر والدمار؟
أنظروا إلى الإقليم الصومالي داخل إثيوبيا مثلا: أرض تعوم على الذهب الأسود والموارد الهائلة ومع ذلك يعيش أهلها في فقر مدقع وحرمان بسبب الفشل الإداري والسياسي!
هل سنظل نحمل مفاتيح كنوزنا في جيوب ممزقة ونمد أيدينا للعالم نشحذ لقمة العيش؟
لقد صرنا أيتامًا داخل أوطاننا ومشردين خارجه، لا نملك من أمرنا إلا الشكوى ولا نجد من يحنو علينا حتى من بني جلدتنا. وعليه لا بد أن نكون صرحاء مع أنفسنا!
ما أصابنا لم يكن عبثًا ولا مصادفةً بل هو نتيجة حتمية لذنوبنا ومعاصينا، وظلم بعضنا لبعض وسفك الدماء بغير حق. قال الله تعالى:
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾
كثير من الليالي لا أنام حزنًا على وطني الممزق، أفكر وأتساءل: هل أكون “أحمد الشرع الصومال” وأحمل مشعل التغيير؟ لكن سرعان ما أفيق على حقيقة مرة! ثقافة شعبي ليست كغيره من الشعوب، والظروف هنا أعقد وأشد ألمًا وتعقيدًا، والشقاق الداخلي أعمق مما نتصور.
ختامًا:
هذه ليست دعوة للتفريط بالوطن ولا استسلامًا لمصير مظلم بل هي صرخة من قلب صومالي ينزف وهو يرى وطنه يُذبح كل يوم.
صرخة أوجهها لكل عقلاء وغيورين على هذا البلد المنكوب:
فلنكن شجعانًا في التفكير جريئين في الطرح واقعيين في الحلول واضعين أمام أعيننا هدفًا واحدًا: أن نعيد الصومال إلى الحياة مهما كلفنا الثمن ومهما طال الطريق.
قد تكون الطريق التي أقترحها مؤلمة لكنها أقل ألمًا من البقاء في مستنقع الفوضى إلى أجل غير مسمى.
فلنبحث عن حلول شجاعة خارج المألوف ما دمنا نضع كرامتنا وكرامة أجيالنا القادمة نصب أعيننا.
وصدق الله تعالى إذ يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾.
عبدالنور حسن رشيد( بشاش)
مينيسوتا- الولايات المتحدة الأمريكية.