في تلك الفترة وعلى جنبات مركز الأيتام لم تكن القراءة مدرجة في قاموس الحياة ولا ضمن دائرة اهتماماتي، بل كنا نتصارع مع الظروف من أجل مواصلة الحياة، والكتاب كان ضربا من الخيال ورفاهية مضحكة، حتى المدرسة كانت حلما صعب المنال في ظل قبائل متناحرة على سيطرة وطن أرهقه صراع “الإخوة الأعداء” في عز المراهقة كنت ١٥ ربيعاً على ما أظن أعطاني أستاذ عبد الله دلب رحمه الله كتاب “فقه اللغة وسر العربية” للثعالبي ولا بد أنه كان يوما مميزا وعظيما في حياتي، كان الأستاذ رحمه الله يقدس هذا الكتاب ويحب إحياء البعد العربي المهمل من ثقافتنا، ويقرأ باحترام وشغف كلما يمت لغة الضاد بصلة، كان يعشق اللغة العربية بطريقة لم أر مثلها في حياتي، ويتفنن في تدريس قواعدها وأسرارها وأدبها حتى صار معلما من معالم اللغة العربية ليس في كسمايو فحسب، بل في جنوب الصومال بأسره.
تأبطت الكتاب وأنا لا أعرف القراءة ولا اللغة العربية سوى القرآن الكريم الذي حفظته عن ظهر قلب منذ الصغر، أما كتاب عريق يتناول صياغة الكلمة وأساليب اللغة وتصاريفها وقواعدها، والأوصاف والنعوت والأسماء، والاشتقاق، ويعتبر أمهات الكتب العربية قديما وحديثا فكان جديدا علي وبحق، جلست تحت إنارة ضعيفة لإحدى الغرف المكتظة بالأطفال والمراهقين، كانوا يلعبون ويضحكون ويتسامرون ويقضون أوقاتهم بنكات معلبة بالسذاجة والشجار وكثير من الصراخ، كانت مقدمة الكتاب تختلف عن جميع ما قرأت أو سمعت؛ إنه لا يشبه المقدمات المألوفة لكتب فقه المذهب الشافعي كسفينة الصلاة، ومتن أبي شجاع، والمنهاج، وكذلك الأحاديث كرياض الصالحين، والتجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، والسيرة النبوية كالرحيق المختوم الذي سمعته عن طريق أشرطة الشيخ شريف عبدالنور الصومالي الذي لزم الحرم المكي حتى توفي في رحاب بيت الله الحرام، وكان رحمه الله من أكثر علماء الصومال علما وتقوى وورعا وصلاحا، في تلك الفترة وبداية الألفية الثالثة وقبل ظهور الآلات الحديثة كانت تسجيل الكتب بواسطة الشرائط رائجا في الصومال وفي معظم البلاد العربية والإسلامية وشكلت مصدرا مهما من مصادر المعرفة.
ولا أنسى “فتح المجيد شرح كتاب التوحيد” الذي لم يفارق مركزنا يوما، ذلك أن الأساتذة والمسئولين كانوا من المدرسة السلفية والمتأثرين بالمذهب الوهابي الذي أعاد للدين اعتباره من الناحية العقدية ونقاها من شوائب الشرك الذي كان منتشرا في الجزيرة العربية وربوع العالم الإسلامي، وإن شابته بعض الغلاظة النجدية والعادات التي لم نعرفها نحن يوما، وعندما أردنا تطبيق الوهابية بحذافيرها – دون التنقية والغربلة- على مجتمع مختلف كليا عن المجتمع النجدي في القرن الثامن عشر الميلادي طارت الرقاب وسالت الدماء، وتدابرت الأمة، وانشقت الصفوف، وشوهنا الإسلام من حيث لا ندري، وجعلناه سيفا تقطر دما بعد أن كان رحمة للعالمين.
رسخت مقدمة الثعالبي صاحب كتاب “ثمار القلوب في المضاف والمنسوب” حب العربية في وجداني، وأربكتني بداية الكتاب “ومن هداه للإسلام وشرح صدره للإيمان وأتاه حسن سريرة فيه، اعتقد أن محمدا صلى الله عليه وسلم خير الرسل والإسلام خير الملل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات ولألسنة” كان لهذه الكلمات وقع مميز في خيال مراهق حرمته الحروب ترف الكتب ومعرفة اللغات والدراسة الجادة سوى الحلقات الدينية.
“العرب خير الأمم” لم تمس هذه الكلمة وجداني ولم تجذبني بطبيعة الحال، بل كانت تطربني لأنني في ذاك الزمن لم أكن أشك انتمائي العربي – وإن لم أجيد العربية – الذي تلاشى تدريجيا وخرج من خانة اليقين إلى الشك، ليتدحرج نحو هوة سحيقة وغائرة، وأخيراً انتهى كليا وسلمني إلى الحيرة الهوياتية! أما “من أحب العربية عني بها وثابر عليها” فكان لها تأثير القنبلة في وجداني! يا الاهي كيف أعتني بهذه اللغة وأثابر على تعلمها وتدريسها والتعمق في بحورها لأنال الثواب والمروءة والفضائل ومكارم الأخلاق؟
دارت الأيام وبدأت أقرأ الكتب الدينية من ناحية وأصغى إلى معلمي وهو يشرح القواعد النحوية والأعلام في علم اللغة. أبو الأسود الدؤلي ظالم بن عمرو بن سفيان واضع علم النحو وأول من وضع النقاط على الأحرف العربية، الفراهيدي الخليل بن أحمد بن عمرو واضع علم العروض الذي ملء الدنيا زهدا وورعا وعلما، الجرجاني أبوبكر بن عبدالرحمن بن محمد الفارسي النحوي، وكان سيبويه لا يفارق على لسانه حتى ظننت أنه يعيش حاليا بين أظهرنا، أما الزمخشري صاحب كتاب “الكشاف” في تفسير القرآن الذي يعد من أكثر التفاسير دقة من حيث بلاغة القرآن والتراكيب اللغوية فكان حاضرا في كل المناسبات، ورغم هذا كان الأستاذ ينتقد على الزمخشري بمذهبة المعتزلي الذي يعتمد على النزعة العقلية لفهم الدين، وشرحه للقرآن وفق معتقدات المعتزلة وأصولهم الخمسة (التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فجأة ودون مقدمات دخلت أوسع أبواب القراءة في مدينة فقيرة معرفيا ولا يوجد فيها مكتبة عامة، وإيجاد الكتاب العربي سوى الكتب الدينية (الأمهات الستة، كتاب المذهب الشافعي، وبعض الكتب الحنبلية التي رافقت الطلاب الصوماليين الذين تخرجوا من الجامعات السعودية وبوصولهم إلى العربية السعودية تحولوا إلى المذهب الحنبلي في حركة غير مبررة سوي التبعية وتغيير الجلد والتلون حسب الظروف، وكان المذهب الشافعي منتشرا في جنوب الحجاز واليمن والأحساء قبل أن يزيحه المذهب الحنبلي الذي كان زائدا في النجد ولا حقا صار مذهب الدولة.
في ٢٠٠١ و أنظار العالم تتجه صوب أمريكا وأبراجها المدمرة كانت بدايتي الحقيقية للقراءة ذلك أن أحد الزوار لمركزنا كان يقرأ كتاب صور من حياة الصحابة للمؤرخ والأديب السوري عبدالرحمن رأفت الباشا مؤسس رابطة الأدب الإسلامي العالمية، فأخذت الكتاب من صاحبه يحدوني الفضول ليس إلا، قرأت الصفحات الأولى؛ لغة مختلفة عن الكتب الفقهية والدينية واللغوية التي كنت أقرأها، سلاسة في نقل المعلومات، تفنن في تصوير المواقف وتخليد الأحداث، إبداع أدبي في قالب يبهرك بجزالته، قصص مكتوبة بأسلوب شائق، طرائف ماتعة، وحبكة مشبعة بالألفاظ الرنانة والروحانية الدينية، وفوق ذلك بطولات إسلامية، وفتوحات محمدية، الإسلام يقود العالم، يهزم الكسرى في بلاد فارس، ويفتح أمصار الروم، ويواصل التوغل في أعماق القارات المعروفة، قصارى القول كنت أتلمس القوة والريادة من صفحات الكتاب في زمن الهوان والانبطاح والتخلف الذي ضرب أطنابه على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
ذهبت مسرعا إلى غرفتي والكتاب لا يفارق في يدي، تصفحته بود وقرأته بتمعن وشغف شديدين، شيء ما يجبرني على الغوص في أعماق الأحداث والتفاصيل ومعاصرة الصحابة في سهوب العراق وسهول فارس، وواحات إفريقيا، وصحراء الجزيرة العربية، ومستنقعات آسيا، صولات وجولات، استبسال وانتصارات، ونداء الإسلام الخالد يعلوا فوق المآذن والمنابر، بطولات خارقة وتضحيات جسيمة في سبيل الله، كنت شابا طريا شكل الإسلام تفاصيل حياته منذ ولادته فبات الكتاب رفيقي في الحل والترحال، ولكن ما زال حاجز اللغة يمنعني على الفهم الصحيح والإدراك الصريح للجمل والكلمات، أشعر غصة وألم، في العقد الثاني لا أستطيع فهم كتاب في حين أترابي من الدول المتقدمة وحتى دول الجوار يعرفون القراءة والكتابة، في صغرهم رافقتهم كتب الأطفال الربان الصغير، أطفال الغابة، قصص الأنبياء، أطلس الأطفال المصور، وحكايات الجدات، وفي المراهقة قرأوا الروايات والكتب المناسبة لأعمارهم.
وبعد شهور كنت موعد مع المفاجأة الأكبر؛ القراءة خارج نقاط الدين رغم أن الكتاب وثيق الصلة بالدين والدعوة الإسلامية؛ كان “في جنوب الصين” أول كتاب قرأته في حياتي وأنا أفهم لغة الضاد وأستطيع أن أستمتع بسياقها وصياغتها ومتعتها الأدبية؛ كانت الرحلات تشكل مفهوما جديدا في نفسي، ولم أسمع قط أدب الرحلات، ولا تفاصيل المدن العامرة بالسكان والأبراج والحياة المرفهة كشانغهاي، ومناطق آسرة (تونغ يانغ) والمدن التاريخية التي ظلت حاضنة الإسلام في الشرق الأدنى قوانتشو وما جاورها من المدن والمقاطعات، أنهار جارية، وطبيعة باذخة، وأمواج بشرية في كل المناطق أجبرتني على قراءة الكتاب عدة مرات في أسبوع واحد، أذهلتني الجمل الأدبية المجازية والجديدة علي كليا ” تمطر كأفواه القرب” يا إلهي ما هي القرب؟ لا أدري ولم أكن أعرف عن القواميس وبحث الكلمات، “كان الجو صحواً” الأرياف الخضراء” منطقة زاهية الخضرة، وغيرها من الجمل الجذابة التي كانت في منتهي الروعة. أشتاق إلى تلك البراءة والرغبة والتذوق الإنساني للنصوص.
في جنوب الصين فتح لي آفاق المعرفة وغرس فيني حب الترحال وأدب الرحلات ولا غرو أن يكون كتابي الأول ” جنوبا.. ما وراء الساڤانا” الذي صدر عام ٢٠١٨م عن دار النسيم للنشر والتوزيع القاهرية عن أدب الرحلات ويتناول خمسة دول إفريقية فالترحال يمنحني الصفاء. وفي العام ذاته ٢٠٠١م تحولت مدرستنا من اللغة الصومالية إلى اللغة العربية بشكل كلي بمبادرة من شباب تخرجوا من الجامعات السعودية والسودانية والسورية، كانوا يحملون همّ اللغة العربية وشغفها، إضافة إلى أن المناهج العربية كانت متوفرة في الصومال، سواء المناهج الخليجية (المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة) أو السودان ومصر في بعض الأحيان.